دخيلك يا أمي مدري شو بني – جيلار أقفلت الستارة ورحلت

4.5
(26)

دخيلك يا أمي مدري شو بني – جيلار أقفلت الستارة ورحلت

دخيلك يا أمي مدري شو بني

عندما قرأت قصة هذه الفتاة أحببت أن أنقلها لكم بسبب تأثري الشديد بها ولأني أدرك جيداً أن لا حياة في السماء إلا للودعاء، البسطاء، الفقراء، المتألمين، أنقياء القلوب والروح! قصة هذه الفتاة، هي قصة الكثيرين الذين عاشوا الواقع المرّ الأليم في حياتهم، من ترك، إهمال، تشرد، فقر، مرض، تهجير، حرمان، رفض، تخلي، وحدة، وعذاب!

كان الرب يسوع هو رفيقها وملجأها الوحيد في هذه الحياة، أمسك بيدها، وقادها إلى طريق المجد، حيث الفرح والراحة مع سرور ومجد لا يزولان ونور لا ينطفئ إلى الأبد.

جيلار أقفلت الستارة على المشهد الأخير
دخيلك يا أمي مدري شو بني – جيلار أقفلت الستارة ورحلت

تابعوا معنا تتمة القصة لنعرف كيف أقفلت الستارة!؟

ماتت جيلار أمس. ربما كان يجب أن تموت قبل هذا التاريخ، فالحياة لا تستأهل كل هذا العذاب، والتمسك بها، وخصوصا بعدما “تخلى” الله عن الفتاة باكرا جدا. كانت مؤمنة، وممارسة إلى حد بعيد. هي حال الفقراء والمتألمين دائما، لا يجدون سوى الله ملجأ لهم.

تحملت أوجاعا لا تكابد، جسدية ونفسية. أمس غادرتنا إلى السماء. نعم إلى السماء. لأنه إذا لم تكن حياة أبدية، فذلك يعني أن لا فردوس سماوي، أو أن الله غير عادل على الأرض، وفيما بعد الحياة الدنيا.

هي ممن يتحدثون عنهم في الأفلام “مقطوعة من شجرة”. الوصف ينطبق عليها تماما. كثيرون ضاق بهم الزمن وهجرهم أولادهم وإخوانهم، لكن أحدا لم يهجر جيلار، لأن لا أهل لا أقارب لها. ذهب “والدها”، الشاب العكاري المسلم، في رحلة إلى تركيا، تعرّف إلى شابة مسيحية سريانية، قررا الزواج،

فهربت معه إلى لبنان. تبرأ أهلها منها، ورفضها أهله. لم يعد إلى قريته، بل أقام في عاصمة الشمال حينا. ترك الزوج منزله وهجر زوجته عائدا إلى ذويه. كانت المرأة حاملا، وتبين لها أن زواجها لم يسجل في الدوائر الرسمية.

إذا هي حملت سفاحا، والمولود سيكون لقيطا، بموجب القانون اللبناني. لا أهل. لا أقارب. لجأت الوالدة إلى عجوزين عملت في خدمتهما، وأقامت والمولودة الجديدة معهما، وقبلا بأن يسهلا أمور الفتاة، ولا أعلم كيف، لتحصل على بطاقة هوية لبنانية، حملت اسم عائلة والدتها، وطائفتها. دخيلك يا أمي مدري شو بني – جيلار أقفلت الستارة ورحلت

 

موت والدتها

مرضت الوالدة، وأدركها الموت، فعاشت الصغيرة، التي عانت منذ الولادة تفككا في الحوض، مع العجوزين إلى أن توفيا خلال الحرب اللبنانية. هجر من تبقى من المسيحيين ذاك الحي الطرابلسي، ومعهم جيلار. إلى أين تذهب؟ لا أهل ولا أقارب. بل فقر مدقع، وآلام تحتاج إلى جراحة. حملتها صديقة إلى بيروت، ووفرت لها عملا في سنترال إذاعة “صوت الشعب”. نامت في أروقة المحطة أياما، قبل أن تنتقل إلى منزل مهجور في منطقة رأس النبع.

الإيجار هناك “مقبول” لأن المنطقة على خط التماس ولا طلب عليها. بعد مدة عجزت خلالها عن بلوغ منزلها، انتقلت إلى شارع الحمراء لتقطن في غرفة على سطح إحدى البنايات. وحيدة، بعض ألواح الاترنيت تحميها من الشمس والمطر. كانت، في الليالي العاصفة، لا تنام. تقول: “كنت أشعر بأن ألواح الاترنيت ستطير مع العاصفة، أو ستنزل علي في فراشي. كنت أشعر بالخوف، واستعد للأسوأ. إذا مت لن يشعر بالأمر أحد قبل أيام. لا أريد أن أموت بهذه الطريقة”.

 

المعاناة والمرض

بعد مدة ساعدها الزميل سركيس أبو زيد على الانتقال إلى قناة “الجديد”. عملت في قسم الرصد، ثم انتقلت إلى التحرير. تدربت، وساهمت في إنتاج نشرة الأخبار وبعض البرامج. لكنها كانت كل سنة تحتاج إلى شهر إجازة. هذا حق لها. كانت تمضي أيام “العطلة” في المستشفى. تحتاج كل سنة إلى جراحة في الورك الذي صار يزداد تفككا وتفتتا. كانت تجمع فتات المال حتى لا تطلب مساعدة أحد.

بل على العكس، خبأت قرشها الأبيض ليومها الأسود. هكذا كانت تردد. امتنعت عن حضور أعراس الزملاء والأصدقاء في المحطة لتوفير ثمن شراء ثياب جديدة. لكنها كانت سباقة في إيفاء ما يتوجب في لائحة العرس. لا تريد أن تشعر بدونية الفقر “أيديولوجيا التعبير” على حد وصف زياد الرحباني.

عندما كان الألم ينهكها، كانت تقصد صديقتها “سوسة” كما تناديها. هذه المسلمة القديسة التي، إلى جانب عائلتها الكبيرة، ووضعها الصحي، حضنتها مع زوجها، وفتحت لها منزلها. اصدّق هنا وفي بعض المحطات أن “أبانا السماوي لا يتركنا”. كانت تشعر بالفرح مرة في الشهر، كلما زارت القديس شربل، هناك في المحبسة ترتاح. تقصد المقام نهار السبت لترتاح من عناء المشوار صباح الأحد. كانت تصطحب أولاد “سوسة”، أو إحدى الزميلات في المحطة.

 

داء السرطان والشلل في قدميها

في العامين الأخيرين، شعرت بأن الله تخلى عنها. أصابها داء السرطان في عمودها الفقري، ضربها الشلل في قدميها، وصار يتمدد. بلغ العنق، صارت لا تقوى على الكلام، لا تأكل إلا السوائل، ولا تغادر الفراش. حتى الهاتف لم تعد تستطيع الإمساك به.

تجنبتُ زيارتها. لم يكن ممكنا أن أراها في هذه الحال. كانت تقول لي عبر الهاتف “صلي من أجلي”. وكنت أصلي لتسريع أجلها، كنت أطمئن بطريقة غير مباشرة، من مالك الشريف الذي لم يتركها يوما، ومن أصدقاء كانوا يزورونها،

منهم مريم البسام وسمر أبو خليل ولبيب حلاق، وآخرون لا مجال لذكرهم جميعا. انقطعتُ عن زيارتها. في أيامها الأخيرة لم تعد تقوى على التحمل. أزعجت الراهبات في دير السيدة في أنطلياس، وكذلك الأطباء في مستشفى بيروت الحكومي، وبعض الزملاء. صارت لا تطيق الحياة، صارت تشتهي الموت، وتنتظر ساعتها. لا أعلم لماذا يرفضون الموت الرحيم في مثل هذه الحالات؟

 

دخيلك يا أمي مدري شو بني

في الساعات الأخيرة، عندما عجزت عن الإمساك بالهاتف، صار يرن ويرن فيرد تلقائيا ويسمعنا أغنية فيروز “دخيلك يا أمي مدري شو بني. اتركني بهمي زهقانة الدني”. هو الشعور الدفين بالحاجة إلى حضن الأم مهما كبرنا، ومهما طال البعاد. أمس حمل زملاء في المحطة نعش جيلار إلى كنيسة سيدة البشارة للسريان. صلوا لأجلها، كل على طريقته، لأن أكثرهم غير مسيحيين، مسلمين وعلمانيين. احتاروا من يعزون، فالمعزّى بها وأهل العزاء في التابوت. عزوا بعضهم بعضا، وهم نحو عشرين.

رفضت كرمي خياط أن تقفل الستارة وينتهي المشهد هنا. مأساة إنسانية، نعم. ولكن ثمة كرامة بشرية وذكرى وحنين وزمالة وصداقة. قررت أن تقيم لها عزاء غدا السبت، لا في المحطة، بل في الكنيسة حيث صلي عليها.

وكرمي الإنسانة لم تتخل عن جيلار يوما، بل تكفلت، مع إدارة المحطة، كل نفقات علاجها ووداعها الأخير، بصمت، ظنا منها أن أحدا لا يعرف هوية فاعل الخير. غدا تقفل الستارة على معاناة إنسانية عاشت في الظل، ورحلت بهدوء إلى حيث يأمل الناس أن تكون حياة أفضل، لا وجع فيها ولا حزن ولا تنهد، بل لا فناء.

نقلا عن جريدة النهار

 

 مواضيع ذات صلة

دخيلك يا أمي مدري شو بني – جيلار أقفلت الستارة ورحلت

lightbook.org

How useful was this post?

Click on a star to rate it!

Average rating 4.5 / 5. Vote count: 26

No votes so far! Be the first to rate this post.

Related Articles

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker