كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب

4.6
(27)

كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب

اعتدنا في الصوم الكبير، أن نتذكر تجارب المسيح له المجد. فقد كلمنا الكتاب المقدس من خلال هذه الآية عن التجارب والضيقات وعن معونة الرب لمحبيه: “كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب” (مزمور 34: 19).

 

التجارب والضيقات

وفي الحديث عن التجارب، يهمنا أن نذكر بعض ملاحظات هامة منها: التجارب للكل لا تخلو حياة إنسان – أيا كان – من التجارب والضيقات… فهي للكل، حتى للأنبياء والقديسين، حتى السيد المسيح نفسه، الذي كان “… مجربا في كل شيء مثلنا بلا خطية” (عب 4: 15)

ولم تكن تجاربه على الجبل سوي مثال للتجارب التي شملت حياته كلها… والسيدة العذراء أيضا كانت حياتها مليئة بالتجارب، منذ يتمها المبكر، وحبلها العذراوي المقدس الذي لا شك فيه يوسف أولا، ثم اضطرارها للسفر إلى مصر… والأنبياء جميعا تعرضوا للضيقات.

كم من ضيقات لاقاها داود النبي من شاول الملك، الذي كان يطارده في كل مكان لكي يقتله… ويوسف الصديق تعرض لتجارب عديدة، من إخوته، ومن إمراه فوطيفار… بيع كعبد، وألقي به في السجن، وهو رجل بار… ودانيال النبي ألقى به في جب الأسود.

 

جميع الأبرار اجتازوا في بوتقة الألم

والثلاثة فتية القديسين القوهم في آتون النار. وبطرس وبولس الرسولين ألقى بهما في السجن. وإسطفانوس الشماس رجموه. وما أكثر الضيقات التي تعرض لها الشهداء والمعترفون. فلا يظن أحد إذن أن التجارب والضيقات هي للخطأة بسبب خطاياهم وإنما هي لجميع الناس، وبالأكثر للأبرار والقديسين. وقد قال السيد المسيح لتلاميذه القديسين: “في العالم سيكون لكم ضيق” (يو 16: 33) وقيل أيضا في المزمور: “كثيرة هي بلايا الصديق، ومن جميعها ينجيه الرب” (كز 34: 19)

جميع الأبرار اجتازوا في بوتقة الألم، واختبروا الضيقة والتجربة. ولم يستثنيهم الله من ذلك، بل كانت آلامهم أكثر. وهنا نضع أمامنا قاعدة هامة وهي أن التجارب لا تعني تخلي الله. إن الله كأب حنون، لا يتخلى عن أولاده مطلقا. وسماحة بالتجربة لا يعني مطلقا أنه تخلي عنهم، أو أنه قد رفضهم. ولا يعني أيضا غضبة أو عدم رضاه… بل هو يسمح بالتجربة لمنفعتهم، ويكون معهم في التجربة: يعينهم ويقويهم ويحافظ عليهم، ويسندهم بيمينه الحصينة…

لقد سمح أن دانيال النبي يلقي في جب الأسود… وفي نفس الوقت لم يسمح مطلقا للأسود أن تؤذيه. بل خرج دانيال سليماً من الجب، وهو يغني قائلا: “إلهي أرسل ملاكه، وسد أفواه الأسود” (دا 6: 22)

وسمح بإلقاء الثلاثة فتية في آتون النار، ولكن “لم تكن للنار قوة على أجسادهم. وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير ورائحة النار لم تأت عليهم” (دا 3: 27) وكان الرب يتمشى معهم في أتون النار. وفي هذه القصة درس عميق هو: إن الله لا يمنع النار عن أولاده، ولكنه يمنعها من أن تحرقهم.

كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب
كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب

التجارب تأتي ولا تؤذي

إلهنا الحنون لم يمنع الحوت من أن يبلع يونان النبي. وفي نفس الوقت لم يسمح له بإيذائه. ويخرج يونان من بطن الحوت سالماً، لكي يؤدي رسالته. وتحمل قصته درساً ورمزاً. لقد سمح الله لشاول الملك أن يطارد داود. وفي نفس الوقت لم يتخل الله عن داود، ولم يسمح لشاول بإيذائه.

إنه يسمح بالضيقة، ولكن بشرط أن يقف معنا فيها: وهكذا يغني المرتل في المزمور: “لولا أن الرب كان معنا، حين قام الناس علينا، لأبلعونا ونحن أحياء، عند سخط غضبهم علينا. مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم، نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا” (مز 124) إنه اختبار روحي جميل، أن نرى الله في التجارب. نراه معنا وبقوة. وربما لولا التجارب ما كنا نراه هكذا.

 

إحدى فوائد التجارب العديدة

العمق الروحي للتجارب، هو أنه لا يجوز لنا أن نراها، بدون أن نرى الله فيها. فالله يسمح لقوى الشر أن تقوم علينا. ولكنه في نفس الوقت يأمر القوات السماوية أن تقف معنا وتحمينا ونحن نغني مع الجشع النبي الذي اجتاز نفس التجربة، ونقول: “إن الذين معنا أكثر من الذين علينا” 2) مل 6: 16) ويقول الرب لكل واحد منا:” لا تخشي من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار.

يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك”(مز 91: 5, 7) من أجل هذا كله أقول: إن المؤمن لا يمكن أن تتعبه التجربة أو الضيقات. ذلك لأنه يؤمن بعمل الله وحفظة… ويؤمن أن الله يهتم به أثناء التجربة، أكثر من اهتمامه هو بنفسه. إنه يؤمن بقوة الله الذي يتدخل في المشكلة.

ويؤمن أن حكمة الله لديها حلول كثيرة، مهما بدت الأمور معقدة. لذلك فالمؤمن لا يفقد سلامة الداخلي مطلقا أثناء التجربة، ولا يفقد ببشاشته بل يتذكر في ثقة كبيرة قول الرسول: “احسبوه كل فرح يا إخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2) إن كل تجربة هي بلا شك خبرة روحية جديدة يتمتع بها الإنسان، وتعمق مفاهيمه الروحية. وفيها يري الله كيف يتدخل وكيف يعمل.

 

أربعة شروط للتجارب

إنها قواعد أربع، وضعها لنا الكتاب المقدس في حديثه عن التجارب، وهي:

 

(1) لا يسمح الله بتجربة هي فوق طاقتكم البشرية إن الله يعرف احتمال كل واحد منا.

ولا يسمح أن تأتيه التجارب إلا في حدود احتمال طاقته البشرية. وفي ذلك يقول الكتاب:” ولكن الله آمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون”1) كو 13: 10) ولعلك تقول: ما أصعب التجربة التي وقعت علي أيوب الصديق، في موت كل أولاده، وضياع كل ثروته، وفقد صحته، وتخلي كل أصحابه. من يستطيع أن يحتمل كل هذا؟! أقول لك: لولا أن أيوب كان بإمكانه احتمال التجربة، ما سمح الله بها له.

إن القامة الروحية الجبارة التي لأيوب، كانت تناسب التجربة الهائلة التي وقعت عليه… فقد كان أيوب رجلا كاملا ومستقيما، وليس مثله في الأرض (أي 2: 3) لا تخف إذن، لو كنت في قامة أيوب لأمكن أن الله يسمح لك بتجارب مثل تجارب أيوب.

وأما وأنت في ضعفك، فإن الله لا يسمح لك إلا بما تقدر على احتماله هل تخاف أن تحدث لك تجارب مثل التي حدثت للقديس الأنبا أنطونيوس؟! هذا الذي ظهرت له الشياطين بهيئة وحوش مفزعة مخيفة، والذي ضربته الشياطين حتى تركته يوما بين حي وميت. اطمئن. لن يحدث لك هذا، إلا إذا وصلت إلى الدرجة التي تحتمل فيها مثل القديس أنطونيوس، وتنتصر مثلما انتصر.

 

(2) تأتي التجربة معها المنفذ أي تأتي ومعها الحل

فلا توجد تجربة هي ظلمة حالكة السواد، بدون أية نافذة من نور. بل هوذا الكتاب يقول عن الله “بل سيجعل مع التجربة المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا” 1 كو 10: 13 لهذا ليس هناك داع لأن ييأس أحد في وقت التجربة فلكل تجربة حل، بل حلول لا تنظر إلى التجربة في شدتها الحاضرة…

إنما أنظر إليها في رجاء، يري الحل الإلهي قادما، حتى إن كانت العين البشرية لا تراه الآن، ولكنها تراه بعين الإيمان التي تعرف تماما محبة الله وقدرته على الحل. إن التجربة تأتي ومعها النعمة، ومعها المعونة الإلهية، ومعها الحفظ والحلول. وحتى إن كنت أنت من النوع الذي لا يحتمل فالله قادر وقت التجربة أن يهبك احتمالا وصبرا وعزاء. وهذا منفذ آخر للتجربة، تمر منة وتعبر، ولا تستمر ضاغطة. تم التجارب الصعبة القوية، هي فقط للأقوياء، أمثال أيوب وأنطونيوس. وهي أيضا للضعفاء الذين يمنحهم الله قوة وقتذاك… قوة ما كانوا يتخيلونها في أنفسهم.

 

(3) التجارب التي يسمح بها الله هي للخير، أو تنتهي بخير

في ذلك قال الرسول: “كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله”(رؤ 8: 28) ولهذا” احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة (يع 1: 2) هذا الإيمان بخيرية التجارب، يعطي الإنسان المجرب سلاماً وهدوءاً واطمئنانا، فلا تطحنه التجربة، ولا تضغط عليه، بل على العكس تمنحه فرحا.

 

(4) إن لها زمانا محددا تنتهي فيه فلا توجد ضيقة دائمة، تستمر مدى الحياة.

لذلك في كل تجربة تمر بك، قل: “مصيرها تنتهي” سيأتي عليها وقت وتعبر بسلام إنما خلال هذا الوقت ينبغي أن تحافظ بهدوئك وأعصابك، فلا تضعف ولا تنهار، ولا تفقد الثقة في معونة الله وحفظه… 

 

فوائد التجارب

التجربة شيء نافع بلا شك. ولولا منفعتها، ما كان الله الشفوق يسمح بها. كثيرون يريدون أن يكون طريق الملكوت سهلا مفروشا بالورود!!! ولكن هذا عكس التعليم الذي شرحه لنا الإنجيل المقدس، إذ قال الرب فيه: “ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه”(مت 7: 14) وقال “في العالم سيكون لكم ضيق” (يو 16: 33)

وقيل في الإنجيل أيضا:” بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله”(اع 14: 33) هذه الضيقات نحتملها لكي نثبت أننا جادون في سيرنا إلى الملكوت. ولكي ندخل إلى هذا الملكوت باستحقاق، لأننا بذلنا وتعبنا من أجله. إن كان التلميذ يتعب ويكد، لكي يحصل على شهادة دراسية. وإن كان كل صاحب عمل لابد أن يتعب، لكي ينجح في عمله…

هكذا الطريق الروحي: ينبغي أن نتعب فيه لنستحق الملكوت. وصدق الرسول في قوله: “كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبة” 1) كو 3: 8) والتعب قد نبذله بإرادتنا، أو نحتمله إن وقع علينا بغير إرادتنا وهكذا تكون التجارب التي يحتملها المؤمنون من أجل الله والثبات في محبته. وقد يكون بعضها في مصارعة النفس من الداخل… وبعضها في تحمل الضيقات من الخارج.

وهودا القديس بولس الرسول يقول “: بل في كل شيء مظهر أنفسنا كخدام الله، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات في ضربات في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام” (2 كو 6: 4, 5) ومع ذلك يشرح كيف لم يتضايق هو وزملاؤه بشيء من هذا، ولم يفقدوا سلامهم، ولم يفقدوا الرجاء بالله، فيقول: “ومكتئبين في كل شيء. لكن غير متضايقين، مضطهدين. لكن غير متروكين” (2 كو 4: 8’ 9)” كمائتين وهما نحن نحيا، كحزاني ونحن دائما فرحون… كان لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء (2 كو 6: 9, 10)

 

الإنسان لا يكلل إلا إذا انتصر

في الضيقات نشعر بالقوي المسائية الكثيرة المحيطة بنا فنتعزى فنحن لسنا وحدنا مطلقا في التجربة. ولا في وقن الضيقة، بل تحيط بنا نعمة الرب ومحبته، وتحيط بنا قوات الملائكة القديسين التي قال عنها الله إنها تحيط بخافية وتنجيهم، وتحيط بنا أيضا أرواح القديسين، تشجعنا وتقوينا… إنها خبرة روحية…

ومن فوائد الضيقات في العالم، إننا لا نتمسك بمحبة هذا العالم مشتاقين إلى السماء ولو كان النعيم في هذه الدنيا، ما كنا نشتاق إلى النعيم الأبدي، في الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد، حيث “ما لم فترة عين، ولم تسمع به إذن، وما لم يخطر على قلب بشر، ما أعده الله لمحبي اسمه القدوس”

ونحن كما قال الرسول:” غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى، بل إلى التي لا ترى. لأن التي تري وقتية، أما التي لا ترى فأبدية “(2 كو 4: 18) من أجل ذلك كان الآباء القديسون يشعرون أنهم على الأرض غرباء، يعيشون مشتاقين إلى الوطن السماوي. ينظرون كل حين بالإيمان إلى” المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله” (عب 10: 11) ولولا الضيقات لتشبث الناس بالبقاء في غربة هذا العالم الزائل. لذلك نحن نقول عن الشخص في يوم وفاته، أنه قد تنيح أي استراح.

 

▶ كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب (فيديو)

 

استراح من هذا العالم وكل ما فيه من شهوة الجسد والروح وتعظم المعيشة… واستراح من التعب الذي يبذله للثبات في روحيات، واستراح من الضيقات والشدائد والتجارب التي تختبر إرادته هنا في هذه الحياة الأرضية، واستراح مما في العالم من أمراض ومن تعب للجسد وللنفس الإنسان الروحي لا يتعب من الضيقات… وإنما يأخذ ما فيها من فائدة روحية… ويفرح بالإكليل التي ينالها باحتمال التجارب. لا تهزه التجربة… إنما في التجربة يختبر حياة الانتصار الروحي عليها… ويختبر كيف أن الله “يقوده في موكب نصرته” (2 كو 14: 2)

إن الإنسان لا يكلل إلا إذا انتصر. ولا ينتصر إلا إذا حارب. ولا يحارب إلا إذا تعرض لضيقات تمتحن مدي روحانيته: حياته وثبات إرادته تابعة للمشيئة الإلهية وفي التجارب يتلامس المؤمن مع محبة الله العاملة في حياته إن الله إذ يرى محبة الإنسان له في وقت الضيقة، يكافئه بما يظهره له من حب… وكم من قديسين تمتعوا بهذا الحب في وقت الضيقة.

فالقديس يوحنا الإنجيلي راي تلك الرؤيا العجيبة وهو منفي في جزيرة بطمس من أجل الشهادة بكلمة الله (رؤ 1) والقديس بطرس اختبر عناية الله به وهو في السجن (اع 12) واختبر نفس العناية القديسان بولس وسيلا وهما في السجن أيضا (اع 16) تحدث التجارب أحيانا بحسد من الشيطان وبخاصة في أيام الصوم والتناول والحرارة الروحية فإن الشيطان يستعد أيضا لمقاتلته ومحاربته، لكي يسقطه في الخطية أو في القبور…

أعني أن الاستعداد هنا متبادل: استعداد من جانب الإنسان للنمو في محبة الله، واستعداد من الشيطان لإسقاطه إن الشيطان يحزن حينما يجد إنسان يسير في طريق الله. لذلك إن حلت بك التجارب في فترة الصوم، لا تحزن. فهذا دليل على أن صومك له مفعوله، وقد أزعج الشيطان بل إن بعدت عن التجارب، يمكن أن تتساءل: لماذا يتركك الشيطان بدون تجارب؟! هل احتقر أو استصغر جهادك الروحي؟! الرب يعطينا بركة التجارب والضيقات ويعطينا النعمة والمعونة للانتصار عليها.

آمين.

تأملات روحية

 

 المزيد من التأملات الروحية

كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب

lightbook.org

How useful was this post?

Click on a star to rate it!

Average rating 4.6 / 5. Vote count: 27

No votes so far! Be the first to rate this post.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock