كيف نعيش قوة الإيمان وحياة الاستعداد والتجديد؟
كيف نعيش قوة الإيمان وحياة الاستعداد والتجديد؟
في هذا الزمن المقدس من سنة الإيمان التي يجب علينا جميعاً أن نتخذ فيها مقاصد ثابتة للتجديد والاستعداد للفصح المقدس دعونا نتأمل في واجباتنا الأساسية كمؤمنين… الصَّلاةُ مع الصَّومِ والصَّدَقةُ مع البِرِّ خَيرٌ مِنَ الغِنى مع الإِثْم، التَّصَدُّقُ خَيرٌ مِنِ آذِّخارِ الذَّهَب. (طو ١٢: ٨)
التوبة
هي أول أفعال طاعة الإيمان ولذا كان النداء الأول ليوحنا لإعداد الشعب للإيمان هو الدعوة إلى التوبة “في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول: ‘توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات’ “متى ٣: ١-٢ وكذلك سيدنا يسوع المسيح الذي أكد على وجوب التوبة في أثناء رسالته “ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم” لو ١٣: ٣.
التوبة هي موقف داخلي مستنير بالإيمان والحكمة وتغيير عميق في القلب بعد مراجعة النفس وهنا نعود لمثل الابن الضال بعدما استجاب لكل نزواته وبدأ يدفع ثمنها الباهظ “فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعا” متى ١٥: ١٧ ويتبعه قرار وحركة العودة إلى الله” أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ. فقامَ ومَضى إِلى أَبيه.” لو ١٥: ١٨-٢٠.
إن الآب الرحوم يقبل جميع التائبين مهما كانت خطيئتهم، بل يتوق لعودتهم فكم بالحري يقبلهم في الزمن المقدس، فلا يجب إهمال سر التوبة الضروري للتجديد الروحي وخاصة أن هذه النعمة متوافرة دوماً في كنائسنا وليكن هذا الزمن فرصة لبذل الجهد بعون الروح القدس ضد خطايانا ورزائلنا وشهواتنا التي نعرفها جيدا والبعد عن المواقف والأشخاص التي تقود إلى الخطيئة واعتبار التوبة هو موقف أيماني مستمر فيصير القلب دوما كقلب العشار يهتف منسحقاً قارعاً الصدر: “الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ” لو ١٨: ١٣
الصوم
كان الصوم في العهد القديم فعل يمارسه المؤمنين كعلامة على التوبة والتذلل أمام الله بالامتناع عن كل مسرات الجسد وأولها الطعام، ثم ظهر صوم آخر يقود إلى تغيير القلب مثل صوم يونان النبي الذي صار أكثر طاعة لمشيئة الله بعدما بقي صائما في بطن الحوت لمدة ثلاثة أيام، تاب بعدها وصار سبب توبة لأهل نينوى.
إلا أن الصوم قد أخذ بعدا جديدا مع سيدنا يسوع المسيح، فرأينا في صومه أربعين يوماً وأربعين ليلة ارتقاء العلاقة بين الله والإنسان إلى ذروة الكمال، ذاك الذي لا تقوى عليه كل التجارب سواء كانت تجارب جسدية أو تجارب الامتلاك والسلطة أو الارتياب في الأمور الروحية ووعود الله.
عندما فشل تلاميذ الرب يسوع في إخراج الشيطان من جسد الصبي المصاب بالصرع على الرغم من معجزات كثيرة فعلوها باسم المسيح وبعدما وبخهم المعلم، أصروا على معرفة سبب فشلهم فأشار المعلم إلى ضعف إيمانهم بالإضافة إلى أن “هذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم” متى١٧: ٢١ فكان هذا التصريح سبب تأمل الكنيسة على مدار الأجيال في أهمية وروحانية الصوم ودوره الحاسم في تجاوز المؤمنين لهجمات الشرير كالتي نعيشها الآن، نحن في أشد الاحتياج هذه الأيام لأن نصوم بقلب متواضع وسعى حقيقي نحو الفضائل وتعميق الإيمان.
الصلاة
هي الانفتاح على الله والتواصل معه بما في القلب والوجود البنوي في حضرته، فبدون صلاة يستحيل التجديد بل يذبل الإيمان وينزوي، وتتعاظم أهمية الصلاة في الزمن المقدس لأنها تعطى المعنى للتوبة والصوم والصدقة بل هي الزيت الذي يضيء كل أفعال الإيمان ولذا كانت وصية يسوع “اِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبة. الرُّوحُ مُندَفِع، وأَمَّا الجَسدُ فَضَعيف” مر ١٤: ٣٨.
في الصلاة يهب الله غفرانه وتعزيزاته ونعمه وعلمه ورسالته أيضاً وبها يتدخل ويبدل ويصنع الأعاجيب “فَكُلُّ شَيءٍ تَطلُبونَه وَأَنتُم تُصَلُّونَ بِإِيمانٍ تَنالونَه”متى ٢١:٢٢ فلنهتم بكل من صلاة الكنيسة الجماعية والفردية، الصلوات الثابتة كصلاة الساعات التي تعلمنا كيف نصلي والصلاة الشخصية التي نعبر فيها عما في قلوبنا للآب السماوي كأبناء مقتدين بداود النبي وهو ينشد: “في حينِ أَنِّي لَستُ إِلاَّ صَلاة” مز ١٠٩: ٤، ولترافق صلواتنا تأملاتنا في كلمة الله وشخص المسيح فهي الغذاء الروحي الذي به أيضا يحيا الإنسان.
الصدقة
هي عطاء المحبة الأخوية الصادر من القلب وليس من الجيب، إيماناً بمسؤوليتنا عن إخوتنا جميعاً فلا نسلك مثل قاريين الذي هتف في غلظة في وجه الله عندما سأله عن أخيه “أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟” تك ٤: ٩ وهنا نقف أيضاً أمام زكا العشار الذي في لقائه مع المسيح أعطانا نموذج للتوبة ورد المسلوب وتقديم نصف ثروته صدقة للمحتاجين، برهانا على الإيمان والتوبة الكاملة.
“يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي. وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف” لو ١٩: ٨، النموذج الثاني هو الأرملة ذات الفلسين، لقد كان سيدنا يسوع المسيح ينظر إلى عطايا المحسنين ويزنها بمكياله هو، فكانا الفلسين هما العطية الكاملة المقبولة أمامه، لأنهما كانا كل ما تملكه الأرملة، فياله من إيمان..! فلا عجب أن يهتف المعلم مطوباً إياها أمام الجميع، ويختارها لتكون معلمة العطاء للمؤمنين في الإنجيل المقدس على مدار الأجيال، لنتعلم نحن أيضاً منها كيف يكون العطاء الكامل.
الأعمال الصالحة
كان الرب يسوع أثناء زمن رسالته على الأرض يجول يصنع خيراً وقد علمنا قائلاً:” هكذا فليضيء نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات.” متى ٥: ١٦ فالأعمال الصالحة هي تبشير حقيقي بمحبة المسيح الحي في القلوب وتمجيد للآب السماوي مصدر كل خير في الوجود.
وما أبسط تلك الأعمال وأكثرها في الحياة اليومية لمن يرغب في القيام بها، بل في الحقيقة ما أهمها في أيامنا الحالية الخالية من الحب والكثيرة العنف اللفظي والمادي ورفض الآخر، الأغلبية الساحقة تتدعى الحكمة وتتكلم عما هو صواب وما هو خطأ ولا أحد يصنع خيراً بما فيهم نحن،
لا أحد يقوم بدور نبوي يعلن حضور المسيح الحي الشافي في المجتمع العريان الجريح النازف، ينبغي أن نواجه ضمائرنا بصوت يوحنا المعمد الصارخ: “فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم” متى ٣: ٨، ولنراجع ذواتنا في الزمن المقدس في نور تعليم القديس يعقوب أخو الرب:” وكَذلِكَ الإِيمان، فإِن لم يَقتَرِنْ بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه.
ورُبَّ قائلٍ يَقول: ‘أَنتَ لَكَ الإِيمان وأَنا لِيَ الأَعْمال‘. فأَرِني إِيمانَكَ مِن غَيرِ أَعمال، أُرِكَ أَنا إِيماني بِأَعمالي “يع ٢: ١٧-١٨ نختتم المقال بمقطع للقديس يوحنا ذهبي الفم في مناسبة الصوم الأربعين المقدس يقول:” لذلك دعاه الأقدمون ‘ربيع الحياة الروحية‘
فكما تنشط في النباتات والأشجار قوة حياة مع موسم الربيع، فتكتسي بالأزهار وتمتلئ بالزهور مبشرة بثمار وفيرة، هكذا تؤازر الصائم قوة الروح القدس ليعيد النظر في الحياة والسلوك الشخصي والعائلي، ليقطع أهوية وشهوات الجسد بسكين الروح الباتر، ويضبط نفسه ويتعفف، نامياً في أعمال الفضيلة والرحمة بالمساكين والفقراء.
ساهراً على كلمة الله، مواظباً على الصلاة القلبية في المخدع بندامة وتضرع وقرع صدر مع أسرته، وكل هذا بالعجب يتم في النفس دون أن تجزع من دموع أو حزن، ودون أن تندم أو تتحسر على شهوات محببة تركتها إلى غير رجعة، بل في دفء الروح تتقدم في حياة القداسة بمسرة لذيذة.”
الأب بيوس فرح ادمون فرح
المزيد من التأملات الروحية
- الحياة الحقيقية في الله هي مواجهة الشر بالحب
- الرب أصعدني من جُب الهلاك ومن مستنقعِ الطينِ انتشلني
- قانون وصايا الله العشر حسب الطقس الماروني – وديع الصافي
- هل رفع اليدين في وقت الصلاة مفيد؟
- البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس
اغمر يا طفل المغارة قلوبنا بسلامك وخيرك وأمانك