الصوم في المسيحية لماذا نصوم وكيف تحقق غاية الصوم؟

4.4
(23)

الصوم في المسيحية لماذا نصوم وكيف تحقق غاية الصوم؟

قصة روحية

متصوف كبير ومشهور بكل العالم بقداسته، كان ساكن بأحد الكهوف ومتفرّغ للصلاة والتأمل والعبادة. وفي أحد الأيام كان يتأمل، ظهر فار زغير من بيته وقرّب من الرجل، ولأنه جائع صار يأكل الصندل باجر الرجل، ففتح الحبيس عيونه ومن كتر نرفزته قال للفار: ليش عم تزعجني بوقت صلاتي. جاوب بحسرة الفار، بس أنا جوعان.

صرخ بوجه الناسك “فل من هون تشوف”، كيف بتتجرّأ وبتقاطعني بالوقت يلي عم عيش الوحدة مع الله والاتحاد فيه؟ جاوبه الفار وقله دخلك كيف بتقدر تتحد بالله إذا مش قادر تتفق معي؟

إخوتي الصلاة شيء مهم والوقفة الروحية مع الله أهم ولكن بتبقى ناقصة إذا ما بتفتحلي حياتي على إخوتي البشر. حلو إنه أقعد بالكنيسة ساعتين تلاتي، وقدس كل يوم وصوم كل الاسبوع بس الأحلا إنه من بعد ما أضهر من الكنيسة أعرف شع النور والفرح حولي لكل الناس. استقبل وحييّ الكل ببسمة حلوة سماوية، ويا ريتنا منبلش اليوم نستفيد من هالزوادة.

الصوم في المسيحية لماذا نصوم وكيف تحقق غاية الصوم؟

الصوم في المسيحية لماذا نصوم وكيف تحقق غاية الصوم؟
الصوم في المسيحية لماذا نصوم وكيف تحقق غاية الصوم؟

مدخل للموضوع

في بداية زمن الصوم الأربعيني وفي كل سنة يطرح المؤمنون أسئلة كثيرة: ما معنى الصوم؟ ولماذا نصوم؟  وفي أي وقت نصوم؟ وعلى ماذا نصوم وكيف نصوم؟ … فرأينا من الجدير أن نجيب عن هذه الأسئلة الكثيرة من خلال تأملنا للكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة والآباء.

 

مقدمة

لم يكن الصوم حكراً على المسيحيين فقط، بل نجد له آثاره في مختلف جوانب حياة الإنسان، سواء من الناحية الدينية أو المدنية. وقد تأثّر صوم المسيحيين فيه:

– الصوم حسب تحديد المعاجم هو الإنقطاع الكامل أو الجزئي عن الأكل والشرب لمدة معينة. إذن هو حرمان طوعي مؤقت، من غذاء هدفه أن يبقينا على قيد الحياة.

– الصوم له آثار في كل الديانات، وقد تبنّته الديانات كل حسب نظرتها إلى العالم وإلى الوجود وإلى الله، الصوم ممارسة بعد أن غيرّت الديانات هدفه أحياناً. كذلك استعمله الطب لعلاج بعض الأمراض. إذن كان الصوم نذر للشفاء: شفاء “النفس” من أدناسها وخطاياها وشفاء “الجسد” من آلامه.

– في بعض الديانات البدائية صام الإنسان ليغذّي القوى السحرية والإلهية التي تملك مصدر الغذاء لتحقق رغباته وتطمره بالنِعَم، وهذا الصوم يبدو كفرض، إنه طقس يعيشه الإنسان فيساعد آلهته لكي يستمر في الحياة.

– في طقوس ديانات أخرى اقترب الصوم بمفهومه من اختبار الموت، فالذي يريد الإنتماء إلى تلك الديانة، يفهم عبر الصوم القيمة المقدسة للغذاء. فقبل إنتمائه كان متعلقاً بأمه، يتغذى منها وليس له وضع اجتماعي. بالـصوم واختبار الموت يُولد إلى وضع اجتماعي جديد. هكذا يصبح الصوم هوية جديدة تنبع من ولادة جديدة يتعلّم فيها الإنسان كيف يحترم الغذاء بكونه ضرورياً لحياة.

– في المجتمعات التي تمارس أكل اللحوم البشرية يقتل أحد الأشخاص العدو الأسير في احتفال ثم يؤكل الميت حسب أصول محددة. ويصوم الجلاّد لمدة شهر، فبأكل العدو ينتقم الأهالي لموتاهم ويأخذون قوته، وبالصوم يبيد الجلاّد كل قوى الشرّ، فالشعب يأكل جسد الميت والجلاّد بالصـوم يأكل الروح.

– في القرن التاسع عشر انتشرت ظاهرة غريبة: الصوم-الاحتفال. رجل كان يُحبس في قفص في الساحة العامة مدة أربعين يوماً دون أكل أو شرب، وكان اللحامون يحرسونه. هذا الصائم يردِّد عرضه ليكسب عيشه، فالصوم هذا كان مشهداً من السيرك.

– أما الريجيم فانه يبيّن علاقة الغذاء بالجسد، فالغذاء يظهر وكأنه تهديد للصحة، والجسد، وهو يبدو كشيء للشفاء أو للتجميل، هذا الصوم نراه في عالم الجمال للحصول على شكل مقبول.
– وهناك الإضراب عن الأكل في السجون …إلخ. هذه الأصوام رافقت الصوم المسيحي وأثرّت عليه.
وسنطرح موضوع الصوم عبر عنوانين عديدة وهي:

 

1) ما معنى الصوم في الكتاب المقدس؟

  • لماذا نصوم؟
  • في أي وقت كان يصوم المؤمن؟
  • ما هي مدة الصوم حسب الكتاب المقدس؟
  • الصوم بالنسبة لنا هو العيش مع المسيح. فكيف نحقق ذلك ؟:
  • الصوم والتقديس
  • الصوم والتطهير
  • الصوم والتكفير
  • الصوم والجسد
  • كما أن الصوم هو التوبة
  • الصوم رفض وقبول

 

مفهوم الصوم عند البعض من آباء الكنيسة

لأن الإنسان نفساً وجسداً، فهو بحاجة إلى أفعال الجسد. فالصوم أو الصيام كلاهما مصدر واحد صام يصوم صوماً وصياماً، وهو لغة الإمساك عن الطعام والشراب لفترة من الزمن. وأما الكلمة اليونانية νεστεια (نستيا) تعني الإمساك ويشير الإمساك هنا إلى ضبط الجسد والنفس فيصبح الإنسان سيداً على أهوائه وعلى رغباته. فضبط النفس والجسد بإذلالهما يؤدي إلى التواضع وهو شرط لدخول الملكوت. فالصائم كأنه يقول لله” أنا تائب نادم، ولست متعالياً أو متكبراً، فلا حاجة بك لإذلالي أكثر من ذلك”.

والصوم في الكتاب المقدس هو الامتناع أيضا عن العلاقات الزوجية:”…أوصوا بصوم مقدس… وليخرج العريس من مخدعه” (يوئيل2: 15-16). ويتضمن أيضا استرحام الله، فنجد هذا واضحاً في حالة داود عندما مرض ابنُهُ الذي ولدته بتشابع عقب خطيئته معها. ” قد يَرحَمُني الرَّبُّ ويَحْيا الصَّبيّ” (2 صموئيل12: 16-23).

وقد يكون الصوم تعبيراً عن الاتضاع أمام الرب، كما يقول الرب لإيليا النبي عن أحاب الملك عندما جعل المسح على جسده وصام:” رأيت كَيفَ ذَلَّ أحاب أمامَي؟ فلأَنَّه قد ذَلَّ أمامَي، لا أَجلُبُ الشَّرَّ في أَيَّامِه”(1ملوك21: 27-29).

الصوم في المسيحية هو الاعتراف بأنّ الله هو السيد المطلق ومصدر حياة الإنسان قبل الخبز الذي يجود به الله علينا:” ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله”(مت 4:4). وأما كيفية الصوم فهو التبرؤ من الرياء والنفاق إلى صدق الإخلاص والصفاء للبحث عن وجه الله تعالى الذي يرى في الخفاء، وقد وبخ الرب يسوع صوم الرياء والتظاهر قائلا:” وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين…” (متى 6/16-18).

الصوم في المسيحية هو فعل من الأفعال المسيحية الثلاثة (الصوم والصلاة والصدقة (مت6)) الموجّهة نحو الآب السماوي الذي يرى في الخفية بخلاف الرغبة في أن يرانا الناس على ما جاء في كلام سيدنا يسوع المسيح:”أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك”(متى 6: 17-18).

 

2) لماذا نصوم؟

إن الصوم في المسيحية شريعة إلهية كما يعتبرها القديس باسيليوس الكبير الوصية الأولى في الكتاب المقدس:” وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا” (تكوين2: 17). ثبّت سيدنا يسوع المسيح وصية الصوم بقوله:” سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعْ العَريسُ مِن بَيْنِهم، فَحينَئذٍ يَصومون”(مت9: 14-15). الصوم في المسيحية  هو شكل من أشكال التوبة الذي يعبر عن الارتداد في علاقة الإنسان مع الذات والله والآخرين.

 

مع الذات

للصوم وجهان جسدي وروحي. فالوجه الجسدي للصوم هو أن يُعرض الإنسان ذاته عن العواطف المنحرفة ويكبح الرذائل ولا سيما كبرياءه ويُمكّنه من التسلط على غرائزه من حرية القلب ومغريات العالم فيتجدد روحاً ونفساً ويتعلق قلبه بالله. لذا فالصوم لا يقوم على الفم فحسب، وإنما العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم، ولا يقوم على التبدل الذي طرأ على طعامنا فقط بل على قلبنا.

فمن يستطيع أن يسيطر على الأشياء المسموحة يستطيع أن يسيطر على الأشياء الممنوعة. فالصوم يتطلب إذًا جهد يقوم بقهر الإنسان لذاته، بغية التقرب من الله ومن البشر، إذ أن”الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف” (مت26: 41).

أما الوجه الروحي للصوم فهو الامتناع عن الخطيئة، هو موقف القلب، القلب المتواضع التائب، الرحيم، الشفيق، الذي يسعى لتجديد علاقته مع الله. كما يقول يوئيل النبي:” مَزِّقوا قُلوَبَكم لا ثِيابَكم وأرجِعوا إِلى الرَّبِّ إِلهكم فإِنَّه حَنونٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة ونادِمٌ على الشَّرّ” (يوئيل2: 13). الصوم في المسيحية هو عدم تفكير الإنسان بالشر في قلبه. (زكريا 7: 4-10)، هذا القلب المجروح بالخطيئة الميّال إلى الشر والأنانية.

(مز 51) فهو زمن التوبة والعودة إلى الذات بالتقشّف، وفقاً لأول كلمة تفوّه بها يسوع بعد صومه الأربعيني:”فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة” (مرقس1: 15). والتوبة باللفظة اليوناينة (متانويا) μετανοια تعني تغيير العقلية، وباللفظة العبرية (شوف) שוב تعني الرجوع، إنها تهدف إلى مراجعة الذات، إلى التجديد والتغيير والتطوير في الشعور والحكم والحياة، إلى هجر الإنسان العتيق ولبس الجديد، إلى الانتقال من الحياة القديمة والعودة إلى الشباب المتجدد.

 

مع الله

الصوم في المسيحية  ليس هدفاً بحد ذاته، وإنما وسيلة للوصول إلى الهدف، إلى الله” خُبزُ الحَياة” (يوحنا6: 35). لذا لا يمكن أن ينفصل الصوم عن ذكر الرب المحرك الأساسي له. إننا بصومنا نتجه نحو الرب بانفتاح جذري الذي ننتظر منه كل شيء (دانيال9: 3). فمقومات الصوم الأربعيني هي الرجوع إلى الله وطلب رحمته بكل لجاجة من خلال أعمال التوبة والصلاة والصدقة، وبالطبع هناك أعمال روحية ذات صلة بهذا المثلث وهي الاهتداء، المصالحة الغفران، محبة القريب، والابتعاد عن الكراهية والحقد والانتقام.

فنحن بالصيام نعبر أن الله هو مصدر الحياة والعيش وليس الخبز واللحم. “مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان”(لو4: 3-4). فالله هو مصدر وجودنا فعلينا أن نكون مستعدين أن نفرغ حياتنا لكي نمتلئ منه تعالى. لنصم جميعاً متحدين بالرب ولنشبع أنفسنا منه وحده. إذ أن بالـصـوم ربنا يستجيب لنا “فصُمْنا وطَلَبنا مِن إِلهِنا لِأَجلِ ذلك فاستَجابَنا. (عزرا 8: 23).

 

مع الآخرين

الصوم في المسيحية هو زمن العودة إلى بعضنا البعض بأفعال المحبة والصدقة والرحمة والمصالحة. فالصدقة هو موقف القلب، القلب الرحيم، الشفيق، الذي يسعى لتجديد علاقته مع الآخرين. فلا حب بلا تضحية والتضحية بلا حب أمر خارجي. الصيام وحده لا يوصلك إلى السماء بل يلزمك لتصعد إليها على أجنحة المحبة”.

بالصوم يشعر الإنسان بالجوع وبالتالي مع الجائع. ما نصوم عنه ليس من حقنا، وإنما هو من حق الفقير. ما تحرم نفسك منه، قدّمه إلى شخص آخر. الصوم المقبول عند الرب يقول اشعيا النبي:” أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟” (اشعيا58: 7).

ألم يقل المسيح:” تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ … كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه”. (مت25: 34-40). الصوم كالطائر لا يطير إلا بجناحين الصلاة والصدقة. هذا هو الصوم الذي يفضّله الربّ: الصوم الذي يظهر له أيادي مليئة بالحسنات وقلبًا ممتلئًا بحبّ الآخرين؛ صوم مليء بالطيبة.

 

3) في أي وقت كان يصوم المؤمن؟

في العهد القديم نجد أن وقت الصيام كان في أيام مختلفة حسب الظروف منها:

يوم الكفارة: هو اليوم الوحيد الذي أمرت الشريعة بالصوم فيه. وهو اليوم العاشر من الشهر السابع حسب التقويم العبري وكل ما هو مطلوب: تذليل النفوس، والامتناع عن كل عمل، وهو يوم عطلة مقدسة، يصومون فيه ويقدمون قربانا للرب. (أحبار16: 29-34؛ عدد29: 7).

وقت الشدة: كان اليهود يصومون في أوقات أخرى لم تأمر الشريعة بها وهي:
– وقت الاستعداد لملاقاة الله: كما حدث مع موسى (خروج34: 28)؛ ومع دانيال (9: 3).
– في زمن الحرب أو التهديد بالحرب: (قضاة20: 26).

– وقت المرض: صام داود عندما مرض ابنه (2 صموئيل 12: 16ت).
– وقت النوح: صام داود سبعة أيام من أجل مقتل شاول (1 صموئيل31: 13).
– وقت الندم والتوبة: كانت المصائب تعتبر دليلاً على غضب الله، فكان الندم والتوبة وسيلة الخلاص منها. صام أحاب واتضع أمام الله عندما أنذره إيليا بالمصير الذي ينتظره لقتله نابوت اليزعيلي (1ملوك21: 27).

– وقت الخطر الدائم: نادى عزرا بصوم ليطلب رعاية الرب له وللشعب الراجع من بابل إلى وطنه (عزرا 8: 21).
في ذكرى الكوارث: اليوم 10 من الشهر الخامس الذي فيه أحرق الهيكل (ارميا52: 12). واليوم العاشر من الشهر العاشر الذي بدأ فيه البابليون حصار أورشليم (2ملوك25: 1).

زمن الأزمات: يحدث الصوم في حالة دمار البلاد … (يوئيل 14:1). أما في العهد الجديد فنجد مناسبتين يطلب الله فيها الصيام:

لطرد الشياطين: هناك شياطين لا تخرج إلا بالصلاة والصوم. ويشير الصوم هنا كمؤشر للإيمان (مت17: 21؛ مرقس 9: 29). وعلى هذا المبدأ سار المسيح الذي صام أربعين يوماً وحارب بعدها الشيطان وجابهه، وعلى خطاه سار الرسل وآباء الكنيسة.
للقيام برسالة تبشيرية: عندما قال الروح القدس للتلاميذ في أنطاكية:”أَفرِدوا بَرْنابا وشاوُلَ للعَمَلِ الَّذي دَعَوتُهما إِليه. فصاموا وصلَّوا” (رسل 13: 1-3).

 

4) ما هي مدة الصوم حسب الكتاب المقدس؟

في العهد القديم كان الصوم عادة لمدة يوم واحد من شروق الشمس إلى مغربها (قضاة 20: 26؛ 1 صموئيل 14: 24) وربما كان لليلة واحدة (دانيال6: 18-19)، واستمر صوم أستير ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً (أستير 4: 16) وصام أهل يابش جلعاد سبعة أيام لموت شاول (1صموئيل31: 13) وصام داود سبعة أيام عند مرض ابنه (2صموئيل 12: 16-18). وقد صام موسى أربعين يوماً (خروج 34: 28؛ تثنية9: 9)

وكذلك صام إيليا (1ملوك19: 8). ويدل رقم “أربعين” وهو عمر جيل بكامله على فترة زمنية طويلة لا تُعرف مدتها معرفة دقيقة. يرجح أن هذه المدة تشير إلى الوقت الذي قضاه موسى على الجبل أو إلى الأربعين سنة التي قضاها إسرائيل في البرية (عدد14: 34) والتي تشير إلى مسيرة إيليا أربعين يوماً (1ملوك19: 8). وأما في العهد الجديد فكان الفريسيون يصومون يومين من كل أسبوع بدافع من تقواهم الخاصة (ل وقا18: 9-12). الخميس هو يوم ذهاب موسى النبي للجبل لاستقبال الوحي الإلهي، والاثنين هو اليوم الذي عاد فيه من الجبل.

وأما قرنيليوس فكان صائماً لمدة أربعة أيام عندما ظهر له الملاك (رسل 10: 1-5). وصام الرجال الذين مع بولس في السفينة مدة أربعة عشر يوماً (رسل 27: 33). وأما الأرملة حنّة فكانت تواظب ليل نهار على الصلاة والصوم “لا تُفارقُ الهيكلَ، مُتعبِّدةً بالصـوم والصلاة ليلَ نهار” (لوقا 2: 37). وصام يسوع أربعين يوماً ليفتتح رسالته بفعل
تسليم لأبيه بثقة كاملة (مت4: 1-11). إن هذه الأربعين يومأً هي أيام مسيرتنا الجماعية إلى ليلة الفصح المقدسة، إنها تمثل صعود يسوع إلى أورشليم. إنها تمثل طول الطريق التي تبعدنا عن الله، وسلوكنا لدرب العودة والرجوع وملاقاة الله ومصالحته في عيد الفصح. “فلا نترك الفصح يمرّ من غير أن ندخل في حقيقته وفي مطالبه.

 

5) ما هو دور الكنيسة في شريعة الصوم؟

وضع لنا المسيح الخطوط الرئيسية للصوم، غير أنه لم يحدد أياما للصيام، ولا ساعة لبداية الصوم كما لم يحدد لهذا الصيام التزامات أو ممنوعات أو مباحات، إنما أنهى عن الصوم الشكلي والظاهري، تاركاً التفاصيل للكنيسة لتبتّ فيها، ولتفسّر للمؤمنين كيفية الصوم بحسب البيئة والظروف، وبما تراه مناسباً لتحقيق مفهوم وهدف الصوم. فوضعت الكنيسة قوانين للصيام. وغايتها أن تكفل للمؤمنين الحد الأدنى الذي لا بد منه في روح الصلاة وفي الجهد الأخلاقي كي يتحد الجميع في ممارسة مشتركة لأعمال الصوم والانقطاع للكفر بذواتهم والنمو في محبة الله والقريب.

فالصوم في كنيستنا الرومية الكاثوليكية كما وردت في الكتب الطقسيّة وفي نشرات الأبرشيّات والرعايا فهي كما يلي: الصوم الأربعيني الكبير: أيام الصوم هي أيام الأربعاء والجمعة من أسبوع مرفع الجبن. وأيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من أسابيع الصوم والأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا اليوم الذي يقع فيه عيد البشارة (25 آذار). سبت النور. هو السبت الوحيد الذي يجب الصوم فيه. بينما يمنع الصوم في السبوت الأخرى لارتباط السبت بأحد القيامة.

أيام القطاعة تشمل الصوم الأربعيني بكامله بما فيها أيام الآحاد. بالإضافة إلى الأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا عيد البشارة وأحد الشعانين حيث يسمح بأكل السمك. القطاعة هي الامتناع عن اللحم ومرق اللحم، وعن البياض، أعني البيض والجبن والألبان والزبدة الخ… أما السمك فيسمح به في أيام معيّنة. وكذلك الزيت والخمر في أيام معيّنة.

هذا مع العلم أن السينودس المقدّس قد ترك لكلّ مطران أن يعطي تعليمات وتوجيهات إضافيّة مناسبة لأبرشيّته. من هنا أهمية الصوم وضرورته وفائدته لحياة العبادة والتقوى، كما نراه في الكتاب المقدس. فلا حياة روحية بدونه، ولا يمكن بالتالي أن نتصور قديساً بلغ حياة القداسة من غير الصوم كما لا نتصور قداسة بغير صلاة ويغير أعمال الرحمة.

كما أن للصوم فائدته للنمو الروحي في الفضائل، وتحقيق عمل المواهب في النفس والجسد. لهذا صام المسيح بعد حلول الروح القدس عليه بعد عماده، وصام الرسل بعد حلول الروح أيضاً في العنصرة، ولنفس الغرض يصوم أصحاب الدرجات الكهنوتية بعد نيلهم الدرجة الكهنوتية.

اهمية الصوم والصلاة وضرورتها عند البدء في كل عمل مهم، هو زمن تقشف لإسكات هتافات الجسد وضجيجه، فنتمكن من أن نسمع هتافات الروح ونتعمّق في كلمة الرب والعمل بمشيئته. وإلا يكون صومنا مجرد إمتناع عن الطعام من دون إهتداء داخلي. الصوم هو إرتداد القلب في العمق، وتجديد الحياة، والاستعداد لفتح أبواب النفس لنستقبل نعمة الله فموضوع الصوم في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مرتبط بالتوبة. فالشعب القديم كان يتوب ويصلي ويصوم طلباً لرحمة الله. فهذه الثلاثة مرتبطة

ارتباطاً كاملاً ببعضها. فالصوم هو جزء من حياة التوبة لذلك شددت الكنيسة منذ القديم في زمن الصوم الكبير على فكرة توبة الشعب، ومراجعة النفس للوصول إلى الفصح والقيامة مع المسيح. الصيام إذاً ليس طقوساً نتبعها، بتغيير عادات الطعام والشراب فقط بل هو صيام النفس قبل الجسد ومن ثم يتبعها حرمان الجسد
من بعض الأطعمة، أو البقاء دون طعام. وذلك بصرف وقتاً للصلاة وعمل رحمة مميز، فالصوم يعلمنا ضبط النفس عن الماديات الزائلة ويجعلنا ننظر بعين الرضى إلى عطايا الله وأن نتذكّر أخينا الفقير.

لهذا ومن خلال الكتاب المقدس نكتشف أن الصوم في المسيحية: هو صلاة وعبادة إلى الله، هو التأمل وخلوة معه، هو صعود إلى الجلجلة المقدس حيث الصليب وتجلي قيامته.
هو إصغاء إلى صوته في برية العالم في حجرتك في عملك، في مدرستك وجامعتك، لكي تكتشف إرادة الله فتحققها في حياتك كما حققها المسيح في البرية. من خلال كلمة الله وتعليم الكنيسة.

هو أن تتحمل بكل صبر وهدوء وطول أناة معاناة الحياة ومشاكلها وأن تظهر دائماً مبتسماً أمام الناس. هو حب وعطاء لكل إنسان هو التضامن مع المحتاج، وصفحك وغفرانك لمن أساء إليك. هو فرح تجلي لأنك بصومك تشارك المسيح في فرح قيامته، في فرح انتصاره على الخطيئة وعلى الشيطان وعلى الموت فيتجلى فيك ضياء مجده الابدي.

 

خلاصة القول

بعد أن حاولنا أن نجيب على الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه نجد أن الأهم هو أن يصوم الإنسان ويختبر معنى الصوم وحينئذ يفهم ويكتشف فائدته، فليكن طعامنا في زمن الصوم الأربعينية الكلمة التي تخرج من فم الله، لأنه “ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله” (متى 4:4)، والعمل بمشيئته وهو القائل: ”طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه”، (يوحنا 4: 34) وان نلبي دعوته ونقبل بتوبة وإيمان إلى تناول جسده وشرب دمه وهو القائل: ”لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ” (يوحنا 6 : 55).

 

نص للتأمل: يسوع يصوم في البرية (مت 4: 1-11؛ ل و4: 1-13).
أسئلة: – كيف قاوم الرب التجربة، وكيف نقاومها نحن؟
إلى ماذا يدعونا الرب؟ وإلى ماذا يدعونا الشيطان في النص؟

 

التعليق على نص تجربة يسوع (مت4: 3-11؛ ل و4: 1-13)

 

التجربة الأولى

جُرِّب يسوع في الصحراء، قبل مباشرته برسالته بين البشر. والصحراء خير مكان للخلوة، فيها يرى الانسان ذاته على عريها، بعيداً عن أقنعة المجتمع وتمويهاته. سمع إبليس إعلان الآب، في أثناء اعتماد يسوع:” أنت ابني الحبيب”. وارتعب من وجود انسان هو في الوقت عينه ابن الله، فبذل جهوداً مستميتة كي يزعزع إيمانه في تلك البنوة الإلهية. ولكن يسوع أثبت أنه حقيقة هو ابن الله، برفضه كل اقتراحات عدو البشر، وبتأكيد طاعته المطلقة لمشيئة أبيه.

حاول ابليس إقناع يسوع بأن يكون المسيح كما توقعه وتصوره اليهود، فحاول جرّه إلى بسط سيطرته على جميع ممالك العالم، وامتلاك كل ثروات الكون، واستخدام قدراته الخارقة لفرض الهيبة، والخضوع، لعله بذلك، يحمله على خيانة الرسالة التي تجسد لأجلها. ولكن يسوع أفشل كل محاولاته، فأتى العالم بحبه.

قبل البدء برسالته العظمى، حرص يسوع على إخضاع جسده، وإحكام سيطرته عليه، فصام أربعين يوماً، في جو صحراوي شاق. وخيّل لإبليس أن هذا الجائع قد أصبح لقمة هينّة فأسرع لامتحانه. وزيّن له تحويل الصحراء الحجرية إلى فرن مليء بالأرغفة الشهية والساخنة. ولكن يسوع صدّه بقوله:” ليس بالخبز وحده يحيا الانسان…”

علّمنا يسوع بقوله هذا الأ تُفقدنا حاجتُنا إلى إشباع جوعنا السيطرة على ذواتنا، ولا تدفعنا إلى مقايضة واستبدال أنفسنا بالطعام. هذه المقايضة تعني فقدان الرجاء بالخلاص والحياة والتمرّد على المحنة والألم … واتهام الله بكل ما يحصل معنا من شرور.

يسوع باختباره الجوع، أصبح مشاركاً لكل جائع، وهو طلب وحرّض تلاميذه لإطعام الجياع. فالحاجة إلى الطعام حاجة أساسية، وأول ما يموت في الانسان الجائع هو روحه العنصر القادر على تقبّل كلام الله. فالذي يفتقر إلى الخبز تتعذّر عنده معرفة الله وعبادته.

الخبز عنصر أساسي للحياة، ولكن هناك عنصر أهم من الخبز، هو كل ما يخرج من فم الله. الجوع الأكبر في الانسان هو الدعوة لتلبية نداء الرب لنا، عندها نحيا حياة تليق بالإنسان، تلبية كاملة لله. إلتزاماً لهذه الدعوة صدّ يسوع تجربة إبليس الأولى فمهمته ليست تحويل الحجارة لخبز بل تنفيذ مشيئة الآب. وقد كانت التجربة الأولى محاولة لحّل قضية الله حلاً بشرياً وتحويله إلى حاجة بشرية يشبعها طعام مادي أو عمل، مهنة، مستقبل… ولكن يسوع قضى على التجربة بحزم، وبخّر كل حجج وحيل الشر، ودعانا لنكون أحرار ومسؤولين أمام الله.

 

التجربة الثانية

حاول فيها إبليس إيهام يسوع أنه، بالاستعانة بالملائكة، يمكنه تحدي نظام الكون الذي وضعه الله، وفي أيامنا يغرينا نحن البشر بقدرات العلم والتقنيات الحديثة الكفيلة بالاستغناء عن الله. حاول أن يجعل من يسوع جندياً مظلياً يسقط من فوق الهيكل اختباراً لحماية أبيه، وهي تجربة للتخلي عن بشريته وإظهار ألوهته وزعامته، ولكن يسوع أصر على أن يكون المسيح الخادم الفقير المهان المتألم…

كل انسان يتعرض لامتحان ايمانه الذي يبدو لنا أحياناً قفزة في الفراغ وغالباً ما نشعر بأن الله صامت وغائب عن محنتنا، في حين ان الله يترك لنا حرية التدبير ويضمن لنا سلامة نفوسنا كلما طلبنا ذلك. استشهد إبليس بالمزمور 91 ولكنه حرفّه كما يريد:” الساكن في كنف العلي…. لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك…يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك”.

إذا انت ابن الله فالفرصة أمامك لتثبت ذلك، وما عليك إلا أن ترمي بنفسك من فوق الهيكل فتحميك أجنحة الملائكة. وكان جواب يسوع قاطعاً إنه يثق بأبيه ويكتفي بكلامه. هذه التجربة تكررت أكثر من مرّة ونرى صمت الله المطبق في أثناء آلامه. وكما قال إبليس:” إن كنت ابن الله فألق بنفسك…”، قال المارة أمام الصليب:” إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب”.

وأخيراً حاول إبليس الدخول إلى قناعة يسوع عن طريق إغرائه بما يغري الكثيرين من البشر: أي السلطة والنفوذ وإخضاع الناس، وكان شرطه لتحقيق هذه السيطرة أن يأتمر يسوع بأمره وينفذ مخطاطاته. فبعد فشل ابليس بالتجربتين تخلى عن أسلوب الحيلة، ولجأ لأسلوب جديد فظّ، لم يعد يدعو يسوع ابن الله بل أراده ان يكون عبداً ساجداً عند قدميه، ولكن غاب عن ذهنه أن العبادة لا تصح إلا لله وحده. أراد الله أن يسيطر الانسان على الأرض ولكن الإنسان أراد لنفسه سيادة وسيطرة مطلقة.

جميع ممالك الأرض وما يقلق في هذه التجربة الثالثة أن ابليس يعلن أنها كلها قد أعطيت له وبوسعه إعطاؤها لمن يركعون له. أيكون الأمر كذلك حقيقة؟ يسوع صدّ بحزم عروضات ابليس، والمسيحي المشترى بدم المسيح، والذي بالعماد اشترك في الطبيعة الالهية وسلطانها يسمو فوق كل السلطات والممالك.

من خلال هجمات ابليس الثلاث كان هدفه واحداً تحويل وإبعاد يسوع عن مهمته ورسالته وعن صفته ابناً لله، حاول إبليس جهده لإغراء يسوع بأن يكون المسيح الجبار والمتسلط الذي ينتظره اليهود ولكن يسوع أوضح بأن لا رغبة لديه سوى تنفيذ مشيئة الآب، وتركه ابليس إلى حين ولكنه لم يكف عن محاصرته. إنتصار يسوع هو انتصار الثقة المطلقة في الله وانتصار القداسة المدعوين إليها.

 

خبرية روحية

بيخبروا انو كان في مرة زيز بحب كتير انو يطير ولكن كان عندو مشكلة وحدة: كان ناصح كتير. ونصاحتو هيدي عم تتعبو بعد كم دقيقة من الطيران. راح استشار صاحبو يلي نصحو انو يعمل رجيم قاسي! بس صاحبنا ما ضاين يومين حتى رجع ياكل أكتر من قبل ولكن رغبتو بالطيران خلتو يرجع يفكر شو ممكن يعمل، فقرر انو ينقّص وزنو بأبسط طريقة ممكنة وهي انو يكب عنو كل شيء تقيل ويقبع من جسمو كل وزن زايد وهيك بيضعف وبيصير خفيف تيطير بالعالي.

وكان انو صاحبنا حاول يقبع اجرو بس قبع اجرو بوجعو. حاول ايدو ولكن ايدو وجعتو. ما بقالو إلا انو يقطش شوي من جوانحو. وجرّب ولكن ما تغير شيء ابداً. معقولي، رح أقطش بعد شوي وبعد شوي وبعد شوي، وحاول صاحبنا يطير لكن كانوا طاروا كل جوانحوا.

اخوتي الاحباء نحنا هيك، بعلاقتنا مع الله حابين نوصل لعندو باسرع وقت وبدنا نوصل للكهنوت بأسرع طريقة، ولكن على قد ما همومنا كتار واشغالنا بتاخد كل وقتنا منصير نقطش عن الصلاة عن قراءة الانجيل والتأمل فيه وعن القداس… وبنقول بسيطة كلها مرة. حتى نوصل لوقت طارت الجوانح لبدها توصلنا على السماء. بالبداية بنكون منخاف من الله وبعد فترة قليلة بصير الله يخاف منا.

ما هو الصوم في المسيحية؟ صام يعني انقطع عن شيء ما. عن الأكل والشرب …. إلخ. الصوم مفيد، لذلك نرى أن البعض يصوم لتخفيف الوزن. الطبيب يصف لمريضه الصوم والإمتناع عن الأكل لسبب صحي. ملكات الجمال يصمن ليظهرن بشكل يساعدهم على عرض أنفسهم … إلخ.

هذا على الصعيد المادي، ولكن ما فائدة الصيام من الناحية الروحية؟ في العهد القديم: صام موسى قبل البدء في رسالته أربعين يوماً. ايليا النبي صام في البرية أربعين يوماً قبل لقائه بالله. في العهد الجديد: صام المسيح أربعين يوماً في البرية قبل بداية حياته التبشيرية.

ونلاحظ أن هناك عدة مناسبات نصوم بها، وكلها تسبق أعياداً مهمة، مثلاً: صيام وقطاعة الميلاد، صيام وقطاعة عيد السيدة، صيام وقطاعة عيد القديسَين بطرس وبولس، وأهمها الصيام الكبير الذي يهيئ الصائمين ليوم الفصح المجيد (عيد القيامة). صام المسيح أربعين يوماً ومن بعدها انتصر على الشرّ وعلى خطيئة العالم: شهوة الجسد، وشهوة العين، وكبرياء الغنى (1يو 2: 16). وقد شبّه الأباء القديسون الصوم برحلة بحرية تنتهي بنا إلى ميناء السلام أي سر الفداء ومجد القيامة.

 

لماذا نصوم؟

الصوم في المسيحيةبالنسبة لنا هو العيش مع المسيح. فكيف نحقق ذلك؟

 

الصوم والتقديس

إذا تكلمنا عن التبرير يعني نتكلم عن التقديس، فالأول هو الباب المفتوح مجاناً على الله بحدث يسوع المسيح، والثاني يدخل الإنسان بحريته ويلتزم الخلاص. فالصوم لا يأخذ معناه إلاّ حين يساعد الإنسان على الخروج من انغلاقه وتقوقعه بأن يجعله متنبهاً إلى متطلِّبات الآخر-الله-وحاجات الآخرين-البشر. من هنا فهو يحقق غايته إلاّ بتحوله إلى بعض أفعال المحبة، وبحرية.

الحرية هي حرّة ومحرّرة. الله حرّرنا بمحبته ونحن بدورنا بالمحبة الفائضة فينا نعمل للحرية والتحرير، أولاً، تحرير الله من كل المفاهيم المغلوطة التي تمنعنا من أن نراه كما أوحى بذاته لنا. وثانياً، تحرير الإنسان من حواجز الخطيئة. فالصوم حين يتأسس على المحبة يخلق تضامناً بين البشر ويوجّههم نحو الحرية الحق. فالجائعون والعطاش والفقراء والمستعبدون يبقون بيننا علامة المسيح المتألم.

 

الصوم والتطهير

جميع الديانات تقريباً عرفت طقوس التطهير مستعملة عناصر طبيعية فيها قوة مطهرّة كالماء والنار… إلخ. هذه الطقوس حاولت حماية الإنسان من نجاسته. وكان التطهير محاولة يريد بها الإنسان أن يقترب من الطاهر والقدوس. وفي العهد الجديد أصبح المقياس مقلوباً: الطاهر يقترب من النجس. ابن الله يسكن بين البشر.

فالصوم في حياتنا المسيحية، لا يساعدنا على كبت وإقتلاع أهواء الجسد، إنما يساعدنا على قبول ذواتنا فنتحمّل خطايا الآخرين على مثال الطاهر الذي قَبِلَ أن يكون خطيئة لأجلنا. إذاً الصوم ليس صراعاً ضد ذواتنا إنما هو جهاد ضدّ كل ما يمنعنا من أن نكون ذواتنا وضدّ كل شيء فينا موجه ضدّ الآخرين.

 

الصوم والتكفير

يخبرنا العهد الجديد عن تاريخ الله الذي يتنازل ويقترب من الإنسان، موحياً عن ذاته بأنه المحبة. فهو الآب الذي يصالح العالم بموت ابنه على الصليب وبقيامته من بين الأموات وبإرساله روحه القدوس. فالآب لم يستعمل ذبيحة الابن وآلامه كواسطة لإسكات غضبه كما كان مفهوم الشعب قديماً يصومون ويقدمون ذبائح لإرضاء الآلهة.

فعلى الإنسان على ضوء حدث يسوع المسيح، أن يتقبّل مبادرة الله ويعترف بها ويشهد لها، ويشكرها ويحيا منها. فالصوم لا يصبح فعلاً يخرج من الإنسان ويصبح خارجاً عنه ليستطيع التكفير عن خطاياه، بل هو شهادة توحي بحالة داخلية تنبع من حضور الله الذي يسكن الإنسان. فهو ليس مجهوداً يقوم به الإنسان أو سيراً نحو الله يعيشه وكأن الإنسان يأخذ المبادرة، إنما الصوم هو فعل وعي على أن الله هو هنا، اقترب منا وينادينا. من هنا الصوم هو تعبير عن حضور المسيح العروس في حياة المؤمن وهذا الحضور هو سرّ كمال الإنسان.

 

الصوم والغذاء

في مجتمع استهلاكي حيث يكثر الغذاء يصعب على الإنسان حرمان ذاته بحريّة من الطعام وفي عالم فقير حيث لا يتمكن الإنسان من أن يسدّ جوعه، لعدم وجود الطعام، يسهل عليه ممارسة صوم مفروض. هناك علماء في التحليل النفسي يوردون أن الإنسان يأكل الآخر بالطعام رمزياً. إن آدم وحواء، في سفر التكوين، بأكلهما الثمرة المحرّمة، لم يريدا فقط التذوّق لإرضاء حشريتهما إنما أرادا أيضاً كل ما تمثّل هذه الثمرة من رموز ومعان أي الله ومشيئته.

فليس الصوم في المسيحية فقط رفضاً لإدخال كمية أطعمة إلى بطوننا، إنما هو أيضاً التخلي عن كل ما يمنع الآخر الذي يدخل إلى حياتنا مع علمه وثقافته وغيريّته من أن يكون كما هو، إنه يزيل فعل الإتهام وذوبان الآخر لكي ينمِّي علاقة الاتحاد به والحوار معه.

بالصوم يرجع الإنسان إلى مكانه. يمتنع عن احتكار كل شيء ينتقل إلى الخليقة ويضع ذاته في خدمتها فلا يعود هو مركز الوجود بل يسعى إلى الوجود بذاته أي الله. حين يأكل الإنسان نراه يشكر الله على نعمه. فيبدو الله من هذا المنظار، المرضع والمغذي، هو الذي يفيض علينا بعطاياه لنحيا. هو الغذاء بذاته والحياة هي ذاته.

 

الصوم والجسد

ممارسة الصوم  في المسيحية تتعلّق مباشرة بالجسد، فليس الصوم رفضاً لحاجات الجسد بل مساهمة في إيجاد رغباته الأصلية الحقّة التي تحجبها سماكة الخطيئة وقوة الشرّ ليصبح جسدنا بالتالي، شفافاً أمام النور الإلهي الذي يخترقه، فلا يمكن أن يشكّل الجسد حاجزاً أمام الخلاص بل يعبّر بفعل الصوم عن كائن بشري يتوق إلى قيامة الأجساد منتظراً مجيء العروس.

فلا يمكننا أن نُسيء معاملة ذواتنا كجسد سيعود إلى التراب، بل علينا أن نتحوّل بفعل الروح القدس إلى اكتشاف ذواتنا كجسد سيعود إلى الله بقيامة المسيح. بالخلق ظهر الإنسان على صورة الله وبالتجسّد صار ابن الله إنساناً. أنما بالصوم فجسد المؤمن يصبح صورة جسد المسيح الممجّد. كما أن الصوم هو التوبة: هو زمن الصفح والتكفير عن الخطايا والجهاد في سبيل تنقية النفس وإنعاش المحبة المجروحة بالمعاصي.

هو الصفح عن جميع المساوئ والإهانات والزلاّت: “إن غفرتم للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاّتكم”، فلا معنى للصوم إذا كنا نحقد ولا نغفر. هذا ما نردده في الصلاة الربية:”…اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أساء إلينا”، هو زمن توبة وتقرّب من الله بصلاة خاشعة كلها ندامة وانسحاق كلها ثقة وأمل.

فالصوم هو أول مثال أعطانا إياه يسوع المسيح في بدء حياته الرسولية؛ فقبل أن يعظ أو يعلّم، انعزل عن العالم. فالصيام هو الامتناع عن الأكل، إما طاعة لأمر من الرب، وإما للحصول على نعمة خاصة، وإما لإتمام وصيّة في المحبة، وهي أكثر إلحاحاً من تناول الطعام. وهذا ما نلاحظه في تصرّف ربنا يسوع المسيح.

 

ثلاث أعمال حضّرت رسالته

– عماده على يد يوحنا وتكريسه والشهادة، فرسالة يوحنا كانت تقضي بأن يدلّ الناس على يسوع.
– الصيام، تجرّد من الشهوات وقطع كل ما هو شهواني ولحمي وطبيعي.
– الصلاة، إنه إنسان روحاني بفضل الصوم والصلاة. بعد العماد فوراً دفعه الروح القدس إلى الصحراء ليمضي فيها أربعين يوماً بالصوم والصلاة.

 

منافع الصوم في المسيحية

– بالصوم والصلاة تتطهّر النفوس وتتعفف الأجساد. بالصوم والصلاة يفيض النور العظيم، نور المسيح على الصائمين والمصلّين. بالصوم تعلو الروح وتُقهر الأهواء وتفيض الرحمة من العلاء، بالصوم والصلاة تطرد الأرواح ويحل الروح القدس في النفس التي خُلِقت لتكون مسكن الله (راجع صلاة المؤمن ص23).

– صم أمام ربك بالبر والقداسة ولا تبخل على المحتاج. زد كنوزك كنوزاً لا تبلى، ولا تمل نفسك إلى شراهة المأكل في هذا الصيام. بل أعمل الإحسان والصدقات من اجل ملكوت الله.
– بالصوم والصلاة تستمد رحمة الله ونعمته. الصوم والصلاة تقدّس الأقدمون وعادوا إلى ربهم وأرجعوا الخاطئين إلى الصواب. بالصوم أمات الآباء أهوائهم البشرية.
لتكن أفواهنا لتسبيحك فقط وآذاننا لسماع كلامك وتعاليمك المحيية ولتكن أجسادنا هياكل نقية تتغذى بجسد ودم المسيح المقدسين، ونفوسنا مرآة تعكس بهاءك وجمالك.

بالصوم والصلاة تأهّب موسى لمواجهة العلي وقبول الوصايا. وتمكن ايليا من إظهار غيرته شهادة للإله الحق. واستطاع دانيال أن يسد أفواه الأسود. بالصوم والصلاة تاب اهل نينوى وعادوا من ضلالهم. بالصوم والصلاة تقدس النسّاك وتبرّر الزهاد وتعففت العذارى وتقدّست الراهبات. بالصوم والصلاة عاش المسيحيون الحقيقيون وحافظوا على إيمانهم. بالصوم والصلاة يحيا أبناء البيعة المؤمنة من أقاصي الأرض إلى أقاصيها.

اجعل يا رب صيامنا نقياً مقدساً فنستحق أن نشاهد وجهك كموسى ونغار على اسمك كإيليا ونسد أفواه الشر متغلّبين على الشهوات العالمية مثل دانيال. فلننق الفكر لنستطيع أن نتأمل التقي الذي قهر بالصوم الشرير المدّنِس الجميع. فلتكن الكتب المقدسة مرآة نرى فيها صومنا. فالكتب قد ميّزت بين صوم وصوم وبين صلاة وصلاة. فريضة الصوم والصلاة تقودنا إلى الخلاص إذا كان صومنا بعيداً عن الحسد والمنازعات، نقياً مقدساً، مغموراً بالمحبة المسيحية الصافية.

بالصوم والصلاة تعود الخليقة إلى خالقها ومكونها. ويعرف الإنسان نفسه وتخمد شهواته. بالصوم والصلاة يطرد الله الأراواح النجسة من بين البشر فتزول الخصومات ويسود السلام بين الأفراد والعيل والشعوب. الصوم هو سلاح المجاهدين وترس المؤمنين. الصلاة هي قوة المسيحيين وغذاء نفوسهم.

 

الصوم رفض وقبول

– الصوم في المسيحية هو اعتراف بعظمة الله وقدرته ورفض عظمة البشر وتكابرهم.
– هو قبول الجوهر والتعلق به ورفض الإنسياق الأعمى وراء متطلبات العصر والجسد.

– قبول الحياة الإلهية ورفض الشر الكامن في داخل الإنسان ونشر الخير وتعميم السعادة.
– رفض الغرور والكسل والخمول. وهذا يعني التعقل فلا نثق بالإنسان خالقاً بل خلاّقاً.

– نخلق جواً من المحبة والعدالة ونعمل على بناء عالم أفضل. كل واحد منا يعيش هذه الصفات ويزرعها في بيئته  وفي محيطه يساعد على التحرّر من كل ما يعيق تقدمنا وذلك بالإقتداء بالمسيح فنصبح قلباً محباً لا يتعبه الحب ولا يضجره، ويداً تصافح وتعمل. وهكذا نقبل كل أفكار المسيح ونحققها.

– القبول الصادق هو أساس لكل حوار وفي أساس اتخاذ كل قرار لأن الصدق سوف يحمي ويحامي عن كل إتصالات البشر وعلاقات بعضهم ببعض.

الرفضية والقبول يمليه الرجوع إلى الداخل (موت وقيامة).

– الصوم في المسيحية هو قبول التجدد هو اتجاه نحو الله. بقبولنا المسيح نقبل الإيمان، فننطق بالصدق ونسمع كلام الله ونتطلع إلى الذات لا إلى الآخرين فنغرم بالله لأن اللسان لا يتعب من الكلام والأذن لا تمل من السماع والعين لا تسأم التطلع والقلب لا يشبع. بالصوم نتنقى فكرياً وروحياً وجسدياً.

طوبى لأنقاء القلوب فانهم يعاينون الله.

 

الصوم عند آباء الكنيسة

شدّد آباء الكنيسة، وخصوصاً آباء الكنيسة الشرقية، على البُعد الخلاصي للصوم، فراحوا يمجدونه في كتاباتهم، ويدعون المؤمنين على الالتزام به، وذلك تهيئة للقاء المسيح الفادي والمنتصر على الموت والخطيئة بعد الآلام التي تحمّلها لخلاصنا. فالصوم هو الانتقال مع المسيح من صخب العالم وضجيجه، إلى خلوة الجبل المقدّسة. (جبل الزيتون حيث صلّى يسوع).

 

القديس أفرم السرياني

يعتبر الصوم في المسيحية هو هروبٌ من الوليمة الأرضية إلى الوليمة السماوية. إنه استنارةٌ وصلاة وانتصار. صعود إلى الجبل بلونٍ أرضي ونزول إلى الأرض ببهاء سماوي. إنه البهجة والغفران، والعطش إلى الماء الحي والتلذذ على مائدة الملكوت السماوي. فالصوم يفتح خِزانَةَ الروح القدس ليأخذ الصائمُ الوحي الحقيقي ويمجّد الله على معرفة كمال الحقيقة التي لا يصل إليها إلاّ الصائمون البعيدون عن التلذذ بشرَه الأطعمة الأرضية.

ويجعلنا الصوم نشترك في وليمة المسيح السماوية، ونفرح بالغذاء العقلي الذي يفيضه علينا، ويزيّن جسدنا ونفسنا بالبهاء، فنصبح آنية مختارة يحلّ فيها الروح القدس. وهو الطريق الأكيدة التي توصلنا إلى المجد بعد أن نتجرّد عن حطام هذه الدنيا الزائلة.

 

أفراهاط الحكيم الفارسي

(من بلاد فارس تنصّر وترهّب درس الكتب المقدّسة): يقول: ”أن الصوم في المسيحية هو أنقى شيء في عيني الرب، وهو كنزٌ في السماء، وسلاح ماضٍ بوجه الشرّ، ودرعٌ ضدّ سهام العدو”، وهو يعدد أنواع الصوم:”… لا يقوم الصوم على الامتناع عن تناول الخبز والماء، بل له مقومات وافرة: منهم من يصوم عن الخبز والماء حتى يجوع ويعطش، ومنهم من يصوم بغية الحفاظ على البتولية. إن جاع فلا يأكل، وإن عطش فلا يشرب.

هذا الصوم هو في غاية الجودة. ومنهم يصوم بالقداسة، وهذا صوم سليم، بعضهم يصوم عن اللحم والخمر وأنواع المأكل، وبعضهم يصوم إذ يضع لفمه حاجزاً فلا يتفوّه بكلام سيء. منهم من يصوم عن الغضب ضابطاً نفسه لئلا تقوى عليه، ومنهم من يصوم عن أنواع المتطلّبات ليظل يقظاً في الصلاة، وهناك من يصوم عن رغبات العالم لئلا ينتصر عليه الشرير…إلخ.”

لكنه رُغم إشادته بأنواع الصوم يؤكد على أمر واحد أساسي ليكون الصوم مقبولاً، وهو نقاوة القلب، ومنع اليدين من فعل الإثم. فإذا صمت عن الخبز والماء فلا ينبغي أن تمزج بالصوم التجاديف واللعنات، واحدٌ هو باب بيتك، وبيتك هو هيكل الله، فعندما يصوم الإنسان عن السيئات ويأخذ جسد المسيح ودمه، عليه أن يحافظ بكل عناية على فمه الذي به يدخل ابن الملك. (جسد ودم الرب).

 

القديس يوحنا الذهبي الفم

يؤكد على أن الامتناع عن الطعام وقتاً محدوداً لا يكفي، إذ إن الصائم عن الطعام وحَسب مَثَلُهُ كمثل التائه في البحر، يتوهم أنه قاصد إلى المدينة غير أنه متجهٌ إلى مكان آخر، وذلك لأنه لا يصوم عن الرذائل ويتمسّك بالفضائل مع صومه عن الطعام. فالصوم الحقيقي هو منع النفس عن اللذات البدنية، ومساعدة الآخرين، ورفع الظلم عن البشر وإعطاء الخبز للجائع، وإنصاف الأيتام والأرامل وتجنُّب المكر والغش والتسليم لإرادة الله كلياً.

وفي العظة 31 يختصر جميع الفضائل التي تنتج عن الصوم والصلاة والعفة بفضيلة المحبة التي هي من خصائص تلامذة المسيح. بدون المحبة لا قيمة لصيامنا ولصلاتنا ولصدقتنا. إنها الفضيلة التي تميّز المسيحي الحقيقي في كل ما يقوم به. وباختصار، فإن الصوم، وجميع الفضائل المسيحية، في نظره لا قيمة لها إن لم تكلّل بالمحبة. فالمحبة هي التي تبرهن للعالم أننا تلاميذ المسيح الحقيقيين، وليس صيامنا سوى فعل محبة لأننا من خلاله نريد أن نكون فعلاً تلامذة المسيح.

 

اسحق السرياني

كان يشدّد على الصوم في المسيحية المقدّس الذي اعتبره أحلى من عطر المسك وأذكى من أريج الزهر وأثمن من كل كنزٍ في هذه الدنيا. فالصوم هو شفاء الانسان من كل مرض، وهو القيامة من الموت، والاتكاء على مائدة الله، والقداسة التي يجملّ بها الله كل مَن يمارسه. هو قوة النفس، وتهذيب الحواس، والطريق إلى معرفة الله الحقيقية، والبُعد عن الخطيئة، الصوم بَدءُ طريق الله المقدّس.

الصوم مقدمةٌ لكل الفضائل، بَدَاءَةُ المعركة، جمال البتولية، حفظ العفة، أبو الصلاة، نبع الهدوء، معلم السكوت. وبمجرّد أن يبدأ الإنسان بالصوم، يتشوّق العقل لعِشرة الله. فالصوم في نظره، هو التمثّل بصوم الرب المخلص بعد عماده، تهيئةً للألم والموت في سبيل الإنسان الذي أُبعد من الفردوس بسبب عدم إطاعته لإرادة الله. إنه التوق إلى الشهادة الحقيقية التي تجعلنا فديةَ ذاتنا وفديةَ الآخرين كما المسيح على الصليب.

 

يقول القديس يوحنا السلمي

في كتابه “السلم الى السماء” الصوم في المسيحية هو كبح رغبات الجسد وابتعاد عن الأفكار الشريرة وتحرر من التخيلات المذنبة، هو طهارة الصلاة، نور للنفس ويقظة العقل والقلب معاً. فهو انتظار الرب، هو فتح القلب وتحرره من كل شيء يمكن أن يعرقل هبة فصح المسيح فينا.

 

يقول القديس باسيليوس

“الصوم في المسيحية يهدئ النفس، ينقي الفكر، يبعد الشياطين ويطردهم بعيداً ويقرّب الإنسان إلى الله”. احذر أن تصوم فقط عن اللحم وتعتقد أن هذا هو كل ما يُطلب منك، إن الصوم الحقيقي هو الامتناع عن كل رذيلة:” ابعدوا عن كل إثم”(أشعيا 58: 4).

هو مغفرة كل إساءة للقريب؛ هو ترك الديون للمحتاجين. إنك ربما لا تأكل لحماً ولكنك تنهش أخاك، إنك تمتنع عن شرب الخمر ولكنك لا تلجم الشهوات التي تلتهب في نفسك، إنك تنتظر حتى المساء لتأكل بعد الصيام، ولكنك لا تلبث كل النهار في المحاكم لأجل المخاصمة. إن الغضب هو سكر حقيقي في النفس لأنه يبلبلها.

ويتابع:” لست أعني بالصوم ترك الطعام الضروري لأن هذا يؤدي إلى الموت، ولكن أعني ترك المأكل الذي يجلب لنا اللذة ويسبب تمرد الجسد. إن الصوم الحقيقي هو سجن الرذائل وأعني ضبط اللسان وإمساك الغضب وقهر الشهوات الدنسة. كما اتبع هذه الطريق القديسون، ونذكر منهم القديس جان ماري فيانيه (خوري آرس) شفيع الكهنة، الذي اعتمد على الصوم والصلاة لطرد الشيطان:” سأقهرك، أيها الشيطان الخطّاف، بنعمته تعالى”.

 

خلاصة

الصوم في المسيحية والآلام والموت والقيامة أزمنة خلاصية نعيشها هذه الأيام مع الرب يسوع وبعودتنا إلى آباء الكنيسة نعود إلى تراثنا المسيحي الذي بقي لنا، للتأكيد على إيماننا الايمان الحق، وعلى أن الملكوت السماوي الذي هيأهُ لنا الله، هو بانتظارنا نحن الذين آمنّا بابنه الوحيد الذي افتدانا ونصرنا على الموت. من هنا نراهم يؤكدون على الفرح الخلاصي بقيامة الرب رغم صعوبات الصوم وآلام الفداء، فالجلجلة لم تكن سوى مرحلة من مراحل حياة المسيح، والقيامة هي التي كلّلت كل شيء حسب التدبير الإلهي.

فشهادتهم هي لنا الغذاء الروحي لحياتنا اليومية مع الله، وتعاليمهم هي لنا الوحي المستمر من خلال الكنيسة الأم والمعلمة. ولقد ربط آباء الكنيسة الشرقيون الصوم بالقيامة، فشبّهوا الصوم برحلة بحرية نصل في نهايتها إلى الميناء التي ترمز إلى الفداء والخلاص.

 

نص للتأمل: الإبن الضال (لوقا 15: 11-32)

أسئلة: – أين هي حدود التوبة؟

 

تعليق على نص الابن الشاطر (لوقا 15: 11-32)

في هذا المثل أراد المسيح أن يصوّر لنا في العمق، ليس الحالة البائسة التي وصل إليها الابن، بل محبة الأب، محبة الله الآب، ومواقف الإنسان إزاء هذه المحبة. أراد الابن الأصغر أن يترك بيت أبيه. وقالها بلهجة ناشفة وقاسية:” أعطيني نصيبي من بيتك”، والأب أعطاه دون ممانعة، كنا ننتظر منه أن يرفض أو يحاول إقناع إبنه البقاء… إلخ. ولكن لا. أعطني – خذ.

هل يعني ذلك أنه لا يحب ابنه؟ بالعكس، أقوى دليل على المحبة احترام الحرية، والاستقلالية. فلو رفض طلب ابنه لكان رحل ولم يرجع حتى لو ذاق البؤس. فسبب رجوعه لم يكن حرمانه الخرنوب المرمي للخنازير، بل موقف أبيه منه يوم احترم حريته وتركه ينصرف، صورة أبيه هذه بقيت مستقرة في أعماقه طوال غربته وبؤسه وهذا ما جعله يعود إلى أبيه ليقول له: ”لا أنا جائع، أطعمني. أنا عريان، ألبسني”، بل “أنا خاطئ سامحني”.

هكذا هو الله معنا. يحترم حريتنا ويتركنا نروح نبحث عن سعادة وهمية، بعيداً عنه، فتظل صورته هذه في قرارة أنفسا، فتجعلنا هذه الصورة نعود إليه تائهين مستغفرين. وهذه الصورة في قلب الانسان تمنحه القيمة والكرامة وتزيل كل الحواجز.

“وهناك بدّد ماله عائشاً مبذراً”. كانوا يرحبون به، ويحملونه على الراحات والاحضان، طالما هو غني ولما أنفق كل شيء وافتقر تركه الجميع ورموه مثل قشرة موز. هكذا اليوم قد يصبح العالم بلا شفقة تجاه من لا فائدة لهم ملموسة في المجتمع: المعوّقين، المرضى، العجزة العاطلين عن العمل… وينسون أن ما يمنح الانسان القيمة والكرامة مهما ساءت أوضاعه هو محبة الله وصورته الكامنة فينا.

لما فتش عن حريته وسعادته ضد الله وبعيداً عنه أصبح تائهاً. فرجع لنفسه. “رآه أبوه فرقّ له وأسرع إليه راكضاً”، ان يركض رجل مُسنّ كان عند اليهود أمراً مستهجناً ومرفوض، وأراد المسيح بهذه الإشارة أن يعبّر عن فرح الأب العظيم بعودة ابنه. “فألقى بنفسه على عنقه وقبله طويلاً”، القبلة كانت علامة الغفران، حتى ان الوالد لم يدع ابنه يكمّل عبارات الاعتذار التي كان قد أعدها فبقيت في حلقه كلمة “فاجعلني كأحد اجرائك”. ولم يجاوب الأب بكلمة واحدة على اعتذار ابنه بل سارع إلى إصدار الاوامر للاحتفال بعودته بحفاوة.

فأن يأمر بذبح العجل المسمّن دلالة أخرى على فرحه الكبير. بوادر الاكرام هذه تدل بوضوح على فرح الاب وغفرانه. هكذا هو الله ذلك الاب الحنون الرحوم الذي يهتز فرحاً بفضل رحمته وغفرانه. أما الابن الاكبر فلم يترك أباه بل ظل بقربه ولربما اعتقد خلافاً لأخيه أنه ابناً باراً بكل معنى الكلمة. محبة أبيه لابنه العاق تُبلبله وتُفسد عليه التفكير فيعتبر عطف ابيه على ذلك الشارد والعائد إنتقاص من حقوقه هو، ونسي النعمة التي يعيش فيها.

هو يتكلم لغة الخدمة والعبودية والعدل والطاعة لغة الفريسين، وأبوه يتكلم لغة المحبة والرحمة لغة المسيح لغة الله. نقطة التركيز في هذا المثل أن الآب السماوي هو ذلك الذي ينتظرنا، يهيئ لنا مكاناً في بيته لا المكان الذي نستحقه بجدارتنا بل المكان الذي استحقه لنا المسيح بطاعته وحياته وموته وقيامته. ترك الابن الشاطر أباه وذهب يعيش على ذوقه، وعند المجاعة انحدر إلى أدنى دركات الانحطاط والشقاء مادياً وروحياً.

هذه هي حالنا إن نحن بالخطيئة انفصلنا عن أبينا السماوي مصدر وجودنا وغايته إذا نحن أفسدنا علاقة المحبة القائمة بيننا وبينه وبالتالي بيننا وبين أخينا الانسان. الخطيئة إفتقار والخطيئة عبودية. أما التوبة فهي إغتناء، بعد الافتقار عَرَفَ الاغتناء بعد العبودية عرف الحرية فكانت عودته خيراً له وخيراً لأبيه أكبر، كما يدل ذلك الاحتفاء البالغ. فإذا كانت الخطيئة عذاباً فإن التوبة فرح وعزاء: فرح وعزاء في قلب الله لأنه إله أحياء لا إله أموات، وهو لا يريد موت الخاطئ.

الابن الشاطر وإن ارتكب حماقته في ساعة ضغط نفسي قهّار اعترف بمسؤوليته في المسّ بكرامة أبيه ومحبته لما قال:”يا أبتاه قد خطئتُ إلى السماء وإليك ولا أستحق أن أدعى لك ابناً”. وأنت وأنا أخي ماذا نقول.

بقلم الأب موكاب

 

 المزيد من التأملات الروحية

الصوم في المسيحية لماذا نصوم وكيف تحقق غاية الصوم؟

downloadsoft.net

How useful was this post?

Click on a star to rate it!

Average rating 4.4 / 5. Vote count: 23

No votes so far! Be the first to rate this post.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock