قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته

4.5
(24)

قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته

حياة القديس مارون

كثيراً ما كتب المؤرخون عن قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته الذي ابتكر طريقة العيش في العراء وعن وتلاميذه وشعبه الذين انتموا إلى روحانيته فكراً وروحاً وقداسة.

فقد مرّ على وجود الموارنة أكثر من ستة عشر قرناً في هذا الشرق الذي كان وما زال مليء بالحروب والانقسامات ورغم كل التغيّرات والاضطهادات التي كثيراً ما ألمّت بهذا الشعب الماروني الذي لم يزل يشهد للقيم الأخلاقيّة والثقافيّة والروحيّة والإنسانيّة التي استمدها من أبيه القديس مارون.

إن المعطيات البشرية وحدها لا تضمن هذا البقاء العجيب للموارنة في لبنان والشرق والعالم. فهناك سرٌ ينبع، ولا شكّ من روحانيّة إنجيلية عميقة الجذور. فالقديس مارون هو تلك حبّة الحنطة التي وقعت في التربة الأنطاكية لتنمو وتخصب في بلاد الشرق والعالم. لذلك في هذا العيد المبارك نحن مدعوون إلى أن نعود إلى جوهر هوّيتنا وتاريخنا وجذورنا، لأنه إذا أردت أن تدمّر شعباً فما عليك إلاّ أن تدفعه لكي ينسى تاريخه، فلا سمح الله أن يصحّ فينا هذا القول النبوي!

حياة القديس مارون وسيرة قداسته
قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته

“إن حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمُت تبقى واحدة”

لقد اقتربت ساعة تضحية يسوع بنفسه الذي أراد أن يهب ذاته إلى العالم بملء حريته. يُظهر الإنجيلي يوحنا تدخل الذين أتوا يطلبون أن يروا يسوع أي أن يعرفوا مَن هو. وهذا السؤال مطروح منذ بداية إنجيل يوحنا وعلى كل ّإنسان أن يطرحه على نفسه وأن يبحث عن تلك الحقيقة المطلقة. “لقد أتت الساعة التي فيها يُمجّد ابن الإنسان”. أن يسوع هو حبّة الحنطة التي ستسقط في أرض البشر لتُخصبها.

لقد منح يسوع المسيح بموته على الصليب الإنسان حياة الآب التي تنتصر على الموت. أما ثمار هذه الحياة بالذات فهي الخلود الذي تمنحه، وتمتد هذه الثمار إلى جميع الشعوب دون أيّ تمييز. ويدور كلام يسوع حول التعلّق بالحياة في هذا العالم إذ قال:

“من أحب حياته فقدها ومَن رغب عنها في هذا العالم حفظها للحياة الأبدية”. وردّد الفيلسوف نيتشه: “من أراد الحبّ رضي بالموت”. لذلك لا يستطيع أحدٌ أن يدرك شموليّة خلاص يسوع إذ تمسّك بالحياة الراهنة وكأنها كل شيء. ومن خشي أن يفقدها ولا يرى سواها يحول تعلّقه بها إلى عدم اكتشاف ما يختبئ وراء الآفاق الحاضرة أي الحياة الأبدية.

فملكوت الله السماوي هو أشبه باللؤلؤة الثمينة التي لا بدّ من بيع كل شيء لاقتنائها، ولو أن هذا الأمر يفوق بعض الأحيان طاقة تفكيرنا، فإن تحقيقه هو من عمل الروح الذي يعمل فينا. إنها القاعدة الغربية في الحياة المسيحيّة التي يعطينا يسوع نموذجاً عنها في تضحيته من أجلنا. لذلك عندما نتخلّى عن ذواتنا يمتلكنا ذاك الحبّ الإلهي ويجعلنا نعمل أعمالاً تمجّد الآب كما مجدّه القديس مارون. فإنكار الذات هو إذاً جزء لا يتجزّأ من مجد ابن الإنسان.

إن هناك مصير مشترك بين المعلّم والتلميذ، فكما امتدّت تضحية يسوع إلى العالم أجمع من خلال الكنيسة، هكذا امتدت روحانية مار مارون من خلال تلاميذه إلى الشرق كلّه وعالم الانتشار حيث حلّ الموارنة. لذلك لا بدّ من أن يحيا القديس مارون بروح معلّمه نفسها أي أن يضحي حبة الحنطة التي تموت لتمنح الحياة: “من يخدمني فليتبعني… أن حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمت تبقى واحدة، وإن ماتت تأتي بثمر كثير” (يو 12/24-25).,

فالقضية واحدة بين يسوع والقديس مارون وبيننا نحن الذي نتبع نهجه اليوم. وهي مجد الآب المتجلّي في هبة الذات التي فيها يكشف الآب عن ذاته للعالم في يسوع ويسوع يكشفها لنا في صفيّه مارون. أن هذا الكشف هو مجد الله الذي تجلّى في حياة مارون وتلاميذه وفي الكنيسة المارونية عبر التاريخ حيث يتجلّى الموت بالقيامة والصليب بالمجد وهذا ما طبع حياة الموارنة في شتّى مراحل حياتهم.

 

قال يسوع

“نفسي مضطّربة” إنه وقت التجربة العظمى تجربة الساعة الأخيرة. لقد جاء يسوع من أجل تلك الساعة، جاء مرسلاً من لدن الآب ليتبع الإنسان حتى النهاية في سقوطه وعبوديته وفشله ولينتشله من الموت:” لم آت إلاّ لتلك الساعة” غير أنه يصعب أحياناً على الإنسان أن يعترف بهذه الساعة.

وسمع الجمع الحاضر هذا الصوت فانقسم على نفسه. قال بعضهم: “أنه دوي رعد” وقال آخرون: “إن ملاكاً خاطبه” هذه هي حالة التأويلات البشرية. لذلك وجب علينا أن نتيقّظ لمرور الله وحركته في مسيرة تاريخنا الذي يكتب تاريخ حياتنا على أسطر ملتوية. فإن التاريخ لهو مساحة مقدّسة نختبر فيها حضور الله فينا وبيننا وهذا فإما أن يكون ضياعاً للذات وإمّا أن يكون سبباً لتحقيقها.

 

“الصديّق كالنخل يزهر ومثل أرز لبنان ينمي”

أبصر مارون ومعنى اسمه “السيد الصغير” النور في سوريا أواخر في القرن الثالث في بلدة قورش التي تبعد عن مدينة حلب نحو سبعين كيلو متراً. زهد بالدنيا واعتلى جبل قورش بالقرب من أفاميا أي بما تسمّى “براد” اليوم. لقد اعتنق مارون العيش في العراء على قمّة جبل قورش وكان هناك هيكل وثني قديم طهّره من الشياطين وخصّصه لعبادة الإله الواحد، يحيي الليل بالصلاة والسجود والتأمل ثمّ ينصرف إلى الوعظ وإرشاد الزائرين وشفاء المُصابين.

وهبه الله مواهب الشفاء حتى اشتهر في كل تلك النواحي فتقاطر إليه الناس من كلّ حدٍ وصوب. وما إن وانتشر عرف قداسته حتى تكاثر عدد الرهبان والمتنسّكين حوله فأقامهم أولاً في مناسك وصوامع منفردة ثمّ أنشأ لهم أدياراً وسن لهم القوانين وقام يرشدهم. فتعددّت تلك الأديار المارونية خاصة في شمال سورية ومن ثمّ في شمال لبنان. وكانت وفاة القديس مارون الناسك سنة 410.

كانت طريقة نسك القديس مارون الإقامة في العراء أي في الهواء الطلق تحت السماء على قمّة الجبل صيفاً وشتاءً ونادراً ما كان يأوي إلى خيمة صغيرة تقي جسمه من الثلوج والعواصف الشديدة إلى أن يعود إلى العراء. هذا ما قاله عنه المؤرّخ تاودوريطوس أسقف قورش:”اعتنق القديس مارون المعيشة في العراء على قمّة جبل كان هيكلاً للأصنام. وأقام فيه مُنشئاً هناك خيمة صغيرة ما استعملها إلاّ نادراً وقد أخذ عنه هذه الطريقة كل تلاميذه”.

 

رسالة القديس يوحنا فم الذهب إلى صديقه مارون

“إلى مارون الكاهن والناسك إن رباطات المودّة والصداقة التي تشدُّنا إليك، تمثلك نصب أعيننا كأنك حاضر بيننا، لأن عيون المحبة تخرق من طبعها الأبعاد ولا يضعفها طول الزمان. وكُنّا نودّ أن نكاتبك بكثرة لولا المشقّة وندرة المسافرين إلى نواحيكم.

والآن فإنا نهدي إليك أطيب التحيّات ونحبّ أن تكون على يقين من أننا لا ننقطع عن ذكرك أينما كنّا، لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنّ أنت علينا بإنباء سلامتك، فإن أخبار صحتك تولينا على البعد أجلّ سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسنا كثيراً، إذ نعلم أنك في عافية. وجلّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا”.

 

نشوء البطريركية المارونية

منذ مجمع خلقدونية سنة 451 تعرّض الموارنة لأقصى الاضطهادات حتى الاستشهاد بسبب انتمائهم للبابوية في روما ولمجمع خلقدونية وعدم اعترافهم بالمشيئة الواحدة التي كان قد أمنوا بها اليعاقبة. أن رهبان مار مارون كانوا من أخصّ المتمسكين بتعليم المجمع الخلقدوني.

قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته
قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته

بينما كان الشرق يتمخّض بالحروب والانقسامات وعندما كان الموارنة يتحمّلون في سبيل عقيدتهم الإيمانيّة أشدّ الاضطهادات حتى استشهد 350 راهباً منهم فقد استطاعوا الموارنة أن ينشئوا البطريركية المارونية ويقيموا عليها البطريرك الأول يوحنا مارون سنة 686 وهذا ما يدعو إلى الغرابة والدهشة كيف أن هؤلاء الموارنة استطاعوا القيام بذلك في تلك الحقبة الصعبة من التاريخ!


لقد ترك الموارنة سهول سوريا الخصبة وأتوا إلى جبال لبنان الوعرة وأخذوا منها مقرّاً حيث أصبح فيما بعد مركزاً للكرسي البطريركي. يقول القنصل الفرنسي ستلهوبر: “وما إن اعتصم الموارنة في الجبال حتى ألفّوا أمّة على نصيب من الاستقلال. فقد تمكّنوا في ظلال جبالهم العالية العصيّة من صد الزحف العربي. حتى أصبح لبنان وكأنه قلعة مسيحية طبيعية، وقد تنظّموا بإدارة إكليروسهم وكبار تلاميذهم تنظيماَ إقطاعياً، وعاشوا في جبالهم مدة طويلة في شبه عزلة”.

فأصبحت الكنيسة المارونية إكليروساً ورهباناً وعلمانيين كأنها جماعة ديرية كبيرة تعيش إلى جانب الأديرة والكنائس. لذلك لُقّب على الشعب الماروني “بالشعب الرهباني”. يتمحور ويعيش حول الأديرة والكرسي البطريركي في: يانوح، إيليج، قنوبين، الديمان، بكركي.

 

دور البطاركة الموارنة عبر التاريخ

لقد قام البطاركة الموارنة الذين توالوا على إدارة الكرسي البطريركي منذ يوحنا مارون وأضحى عددهم حتى الآن ستة وسبعون بطريركيا عبر التاريخ بأداور تاريخيّة أساسية في وجود الكيان الوطني لهذا الشعب ونخص منهم السعيد الذكر البطريرك إلياس الحويك الذي ساهم في قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920.

كان للبطاركة الموارنة دور تاريخي قاموا به كما قام به الأنبياء في العهد القديم وهذا ما نتصفّحه عبر صفحات الكتب المقدسة حيث كان بموازة كل ملك نبي يؤنب ويوبّخ الملك عندما يحيد عن طريق الله ويخالف وصاياه هذا ما ردّده كثيراً سفر الملوك: “فلما رأى أحاب وأخبره فجاء أحاب للقاء إيليا، قال له أحاب: أأنت إيليا مُعكّر صفو إسرائيل؟ فقال له: لم أعكّر صفو إسرائيل أنا بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وسيركم وراء البعل” (1م18/17).

وهذا ما قام به أيضاً النبي يوحنا المعمدان إذ كان يوبّخ ويبكّت هيرودس الملك عندما تزوج امرأة أخيه وكان هذا سبباً لاستشهاده: “ذلك بأن هيرودس كان قد أرسل إلى يوحنا من أمسكه وأوثقه في السجن، من أجل هيروديّا امرأة أخيه فيلبّس لأنه تزوجها. فكان يوحنا يقول لهيرودس: لا يحلّ لك أن تأخذ امرأة أخيك” (مر 6/17-18). لذلك فللنبي كلمة يقولها ويجاهر بالحقائق الإلهية دون أي محاباة ومساومة لأنه المعبّر الوحيد عن مشيئة الله لدى الملوك والرؤساء وجميع الناس.

لذلك فالكنيسة المارونية تقوم اليوم بما قام به الأنبياء آنذاك. فلا هوية سياسية محدّدة للكنيسة المارونية بل هي رمز للسموّ البشريّ البعيد عن المصالح الزمنية.

إن مبررات تدخّل الكنيسة في الشؤون الوطنية والسياسية ناتجة عن الخلل القائم في ممارسة السلطة السياسية. إن هذا التدخل يأتي نتيجة الخلل عندما لا تتحقّق العدالة. فالكنيسة تعمل لإحقاق الحق والكشف عن الأخطاء التي ترتكبها السلطة المدنية.

فالكنيسة تلعب دور الضمير الموحي والملهم والمنبّه والمحذّر والموبّخ والمؤنّب. فمن الطبيعي أن يلجأ الناس إليها عندما يشعرون بالمظالم. أما إذا تأمنّت العدالة في تطبيق النظام العام، فإن دور الضمير يصبح أكثر خفاءً ولا يبرز كمنبّه علني، بل يتحرّك مراقباً دورة الحياة العملية. فإن دور الكنيسة هو الحفاظ على الإنسان وتأكيد احترام حقوقه في المجتمع الذي يعيش فيه كعضو فعاّل.

فالكنيسة المارونية هي كنيسة متجذرة في التاريخ والتراث والأرض. لقد عانت حقاً الكثير من الاضطهادات والآلام ولم تزل. هي كنيسة أنطاكية النشأة وسريانية الطقس، وقبل كل شيء هي كنيسة القديسين والأبرار والفلاحين والفلاسفة والعلماء والشهود والشهداء، وما ترسخّت أساساتها إلاّ على دم الشهداء الذين كانوا “بذار القديسين”. وهذا الاستشهاد لم يزل حتى يومنا هذا.

فمهما كان الموارنة عرضةً لشتّى الاضطهادات والعذابات ومهما أُستشهد منهم إلاّ إنهم مثل شجرة السنديان التي تُفرخ بعد قطعها على حد قول أشعيا النبي: “وإن بقي فيها العُشُر من بعد فإنها تعود إلى الدّمار، ولكن كالبطمة والبلّوطة التي بعد قطع أغصانها يبقى جذعٌ، فيكون جذعها زرعاً مقدّساً” (أش 6/13).

 

يقول المرحوم الدكتور شارل مالك

“الذي يبتدئُ به بلبنان كما أبتدئ أنا به، ويحبّه ويؤمن به، ويعرف قدره في التاريخ وفي ذاته وفي العالم، لا يسعه إلاّ أن يحبّ المارونيةّ من الأعماق. فمّما لا جدل فيه، أنه لولا المارونيّة لما وُجد لبنان”.

ويزيد أيضاً الدكتور شارل مالك فيقول عن الموارنة:” فإن توانوا وقعنا جميعاً في الخيبة والحيرة والبلبلة وإن حزموا أمرهم واقادوا، اشتدّت عزيمتنا وصرنا جميعاً صفّاً واحداً متراصّاً”. أمام هذه الحقائق التاريخية لا يليق بأيّ لبناني وعلى الأخص بأيّ ماروني، إلاّ الخوف والرعدة والتواضع المُرتعش.

نشهد عبر تصفحّنا الكتاب المقدّس أنه عندما بلغ الشعب المختار أرض الميعاد واستقر عليها كان إيمانهم بالله مقياساً لراحتهم وسعادتهم. فإذا ما ضعف إيمانهم تعرضّوا لامتحانات صعبة ومؤلمة ومصيرية وتشتد وتقسو بقدر جديّة ضعف إيمانهم، وتندثر وتنهزم بقدر قربهم من الله وجديّة علاقتهم وتعلّقهم به كأب وإله في آن.

وّإذا ما استوحينا من تجربة الشعب اليهودي المختار في أرض الميعاد حيث كان شقائهم يُقاس بمقدار بعدهم عن الله. نرى بأن من الممكن لهذه المعادلة أن تنطبق على الشعب الماروني التي عاشها في شتى المراحل من تاريخه الذي كان مليئاً بالحروب والاضطهدات الأليمة.

لقد أخطأ الموارنة كثيراً عندما تاهوا عن أصالتهم المارونية ولا سيما في الحقبات الأخيرة عندما أضحوا عرضةً لأحقادهم وطموحاتهم وفرديتهم فتصرفوا خلاف الموارنة الذين كتبوا بدم الشهادة فعل إيمانهم بالله وبالأرض والإنسان، فهم ملح الأرض: “فإذا فسد الملح فأي شيء يُملّحه؟”. أن البعض من الموارنة يهملون دينهم وإيمانهم بالله وتراثهم الفكري والروحي واللاهوتي والأخلاقي والبعض منهم اكتفى من الهوية المارونية بالبعد الاجتماعي والسياسي.

لذلك يقول في هذا المجال الدكتور بولس سروّع:” لقد اختزنت المارونية عبر نيف وستة عشر قرناً كنزاً من التراث. فإذا لم يعش الماروني في حاضره ما تسلّمه من ماضيه وإذا لم ينطلق إلى مستقبله معتمداً على ثقة بما يريد في هذا المستقبل فإن الضياع والتشرذم هما واقع الأمر”.

فعبر ثقافة الإيمان الماروني نكون موارنة، أما إذا كنا انتقائيين في الإيمان دون أن نعي جوهر عقيدتنا فلا نلومن أحداً إذا اضمحلّينا. من هنا فإنّ ثقافة الإيمان تضحي حالة ضرورة بل ماسّة كي لا يصبح الإنسان الماروني ورقة في مهب الريح تتنازعه المذاهب والأهواء دون أن يؤثر فيها.

فثقافة الإيمان هي أصعب الثقافات وأيسرها في آن معاً. ولا يكون الماروني مارونياً إلاّ إذا اكتملت ثقافته الإيمانية والإنسانية. أن الماروني الحق هو ليس عنصرياً ولا طبقياً ولا استغلاليا ولا فردياً ولا انعزاليا متقوقعاً على ذاته، إنه وفي شتى مراحل حياته قد عمل لخير الجميع

 

يقول الأب ميشال حايك

هناك خمسة براهين على قيامة الموارنة وعودتهم إلى ما كانوا عليه سابقاً.

  • أولاً: إنهم حاضرون في التاريخ منذ أكثر من ستة عشر قرناً.
  • ثانياً: أن ماضيهم المجيد يشهد لهم.
  • ثالثاً: أن الدهر دولاب.
  • رابعاً: التاريخ نطّاح.
  • خامساً: إنهم يؤمنون بالرب يسوع المائت والقائم من بين الأموات”.

فإذا أردنا العودة إلى تلك الروحانية التي عاشها القديس مارون وتلاميذه والموارنة الأصيلون نحن مدعوون اليوم إلى أن نعود إلى تلك الجذور الروحية والتاريخية ونجاهر بها ونسلك طريق توبة الذهن والقلب التي سلكها مارون وتلاميذه وفي هذا يتجلّى جوهر إيماننا وانتمائنا الحقيقي إلى جوهر جذورنا الإنجيلية والمارونية.

قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته
قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته

ما يميّز المورانة عن سواهم ليس السلاح ولا السياسة ولا العلوم ولا المال ولا الجاه ولا ارتباطهم بالخارج. إن ما يميّز الموارنة عن سواهم هو إيمانهم بربّهم وانتمائهم الحيوي إلى روحانية مؤسّسهم القديس مارون التي استمدّها من الجذور الإنجيلية.

هذه الروح دفعت بالموارنة ليكونوا عبر التاريخ الطويل شهادة حيّة أمام الآخرين كما عاش مارون وتلاميذه وآباؤنا وأجدادنا القديسون. فالموارنة لم يكونوا في تاريخهم العريق إلاّ شعب فكر وقيم وأخلاق وصلاة وتضحية وانفتاح على محيطهم. فإذا لم نتميّز بإيماننا وروحانيتنا وثقافتنا وحضارتنا فما الذي نتميز به في محيطنا الذي نعيش فيه اليوم؟

إن عيش الحرية طبعت كل ماروني عبر مسار التاريخ. فالمارونية والحريّة توأمان ما انفصلا أبداً. فكما أن الظلّ يرافق الإنسان كذلك الحرية التصقت بالموارنة لأنها كانت كنزهم في شتى مراحل تاريخهم وكثيراً ما دفعوا ثمنها غالياً. ففي كل ما تقدّم نحن مدعوون عبر كل ما نعيشه من محن واضطهاد وتشرزّم إلى أن نؤمن أنه من أوجد هذا العجين، لهو قادرٌ على أن يُخرج منه خميراً لعجين جديد، يُكسر خبزه في رحاب هذا الوطن الذي نعيش فيه اليوم.

 

أسئلة للتأمل والتفكير

1- ما هو الانتماء الروحي الذي يربطنا بالقديس مارون؟ هل ندرك أن العودة إلى الجذور المسيحية والإنجيلية هو سلوك طريق التوبة التي وحدها تجعلنا نعود إلى تلك الجذور والروحانية التي عاشها القديس مارون وتلاميذه؟

2- مـا هي المارونية وكيف أعيشها اليوم؟ هل ندرك بأن المارونية تميّزت بروح الإيمان والصلاة والتواضع والانفتاح؟ وهل نعي إنه من يتصفّح تاريخ هذه الكنيسة والحقبات الصعبة التي مرّت بها لا يستطيع إلاّ أن يتملكّه الخوف والرعدة والتواضع المرتعش؟

3- ماذا يعني لنا هذا القول: “أن حبة الحنطة إن لم تمت تبقى مفردة”؟
هل ندرك بأن الموت عن أحقادنا وتشرزمنا وكبريائنا وأنانيتنا وعن كل ما يبعدنا عن روحانية الإنجيل، يكشف لنا عن أصالة هويتنا الإنجيليّة التي عاشها مار مارون وتلاميذه من بعده؟

 

صلاة ختامية

نصلّي إليك أيها الإله الذي ارتضيت الموت لتهب لنا الحياة. يا من دعوت صفيّك مارون فزرعت في نفسه الخصبة كلمتك الحيّة وأرسلته بواسطة روحك القدوس ليجسّد تلك الروح الإنجيليّة والنسكيّة في كل الأصقاع المشرقيّة. أكشف عن عيوننا تلك الضبابيّة بشفاعة مار مارون التي باتت تحجب عنّا رؤية تاريخنا واجعل سيرته الوهّاجة تنبض في أرجاء نفوسنا فنموت نظيره عن ذواتنا وندرك ما عاشه وننحني أمام هذا التاريخ المقدّس بالخوف والرعدة والتواضع المُرتعش.

دعنا نخلد إلى توبة الذهن والقلب ونجسّد حريّة إنجيلك في هذا الشرق المتألم لكي نشهد لتلك الحريّة في عراء شرقنا. حرّر حياتنا من كلّ عبودية وطغيان لكي لا تظلّ فوق رؤوسنا سوى خيمة حبّك وحريّة إنجيلك. اجعلنا لك منارة هدىً وإيمان وتسامح في هذا الوطن ليضيء نورنا أما الناس ويروا أعمالنا الصالحة. لك المجد إلى الأبد أمين.
المصدر: موقع مار مارون
أ‌. نبيل حبشي ر.م.م

 

مواضيع ذات صلة

قصة حياة القديس مارون وسيرة قداسته

downloadsoft

How useful was this post?

Click on a star to rate it!

Average rating 4.5 / 5. Vote count: 24

No votes so far! Be the first to rate this post.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock